الخميس، 20 فبراير 2014

ملك التعذيب


ملك التعذيب
 السجن الحربي!

عزيزتي ...
دخل الفريق حمزة البسيوني قائد السجن الحربي إلى الزنزانة التي كانوا يعذبونني فيها في سجن المخابرات.
ووقف يتفحصني، وهو يراني عارياً تماماً، وأنا مصلوب على جدار الزنزانة والضربات والصفعات تنهال علي، وثلاثة من الضباط ينتزعون شعر جسدي.
ثم قال الفريق: لا..لا..لا! أنتم تدلعونه هنا! هاتوه لي في السجن الحربي ليرى التعذيب الحقيقي!
وأسرعوا يفكون قيودي، وينزلونني من الصلب، ويساعدونني على ارتداء ملابسي! كانوا مبتهجين وهم يفعلون هذا، وكأنهم يعدون عروساً لليلة الزفاف!
ووضعوا عصابة سوداء على عيني، وساقوني خلف الفريق حمزة البسيوني إلى سيارة جيب، قادها الفريق وأجلسني بجواره، وخلفي جنود بالمدافع الرشاشة!
وطوال الطريق من سجن المخابرات إلى السجن الحربي والفريق حمزة البسيوني يهدد ويتوعد! ويقول لي أنه يتسلم المسجونين بغير ايصال، وهو ليس مسؤولاً عن تقديمهم إلى المسؤولين على قيد الحياة، ولا يحاسبه أحد على الجثث! وأنه دفن كثيراً من المسجونين السياسيين في صحراء مدينة نصر، وأنه كلما دفن مسجوناً سياسياً تلقى خطاب شكر!
وكان يقول لي مزهواً: أنا في السجن الحربي القانون والنيابة والمحكمة! وعندما وصلت السيارة الجيب إلى السجن الحربي، اصطف الحراس لتحية القائد الذي جاء لهم بالذبيحة..أسير الحرب الجديد!
ووضعوني في زنزانة صغيرة، ثم أحضر الفريق حمزة البسيوني كلبين ضخمين وتركهما يندفعان نحوي، وكان الدم يسيل من فمي الكلبين، وأمر الفريق البسيوني، فاندفع الكلبان مرة أخرى، وراحا ينهشان ملابسي..وانهالت على رأسي الضربات واللكمات والصفعات والفريق البسيوني يزأر ويقول (اعترف! اعترف وإلا فسوف أقتلك هنا!) وتذكرت في هذه اللحظات صورة أخرى للواء حمزة البسيوني –قبل أن يرقى إلى رتبة الفريق- وكانت صورته يومئذ تختلف كثيراً عن صورة الأسد الهصور الذي وقف أمامي وأنا مقيد بالسلاسل والأغلال.
كان ذلك في خريف عام 1963م دخل اللواء حمزة البسيوني مدير السجن الحربي إلى غرفة مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، في داره بضاحية منشية البكري في القاهرة، ووقف رئيس الجمهوية لاستقبال الضابط الكبير وفوجئ الرئيس بحمزة البسيوني ينبطح على وجهه، ويرتمي على قدمي الرئيس، وهو يحاول أن يقبل حذاء الرئيس، وكان ينتحب ويشهق ويبكي حتى بللت دموعه حذاء الرئيس!
وذهل الرئيس، ومد يده ورفع وجه اللواء حمزة البسيوني الذي كان يتمرغ على الأرض، وقال له: ماذا تفعل يا حمزة؟ أنسيت أنك لواء في الجيش!
قال حمزة وهو لا يزال ينتحب ويرتجف، ويحاول أن يقبل يد الرئيس، والرئيس يسحب يده من شفتي اللواء: سمعت من المشير أن سيادتك حكمت علي بالإعدام!
قال الرئيس في دهشة: أنا لم أحكم عليك بالإعدام، إن كل ما قلته للمشير عبدالحكيم عامر هو أن ينقلك من منصب قائد السجن الحربي إلى منصب آخر في الجيش يليق برتبتك العسكرية.
قال حمزة البسيوني في صوت متهدج: معنى هذا هو حكم بإعدامي! معناه أن أضرب في اليوم التالي بالرصاص!
- من الذي سيضربك بالرصاص؟!
- كل الناس تكرهني لإخلاصي للثورة، كل أعداء الثورة يكرهونني! كل الوفديين، كل الشيوعيين كل الإخوان المسلمين..كل من دخل السجن الحربي!
وطلب الرئيس من اللواء حمزة البسيوني أن يعود إلى عمله، حتى يبحث الأمر مع المشير عبدالحكيم عامر، وحاول حمزة وهو يجهش بالبكاء أن يقبل حذاء الرئيس مرة أخرى، ودفعه الرئيس وقال له في غضب: لوفعلت هذا مرة أخرى فسوف أصدر قراراً بإحالتك إلى المعاش!
وسارع أصدقاء حمزة البسيوني في مراكز القوى –وكلهم شاركوا معه في عمليات التعذيب- يتوسطون لحمزة لإلغاء قرار نقله من السجن الحربي، لأنه يؤمن بأنه سوف يقتل بعد 24 ساعة من خروجه من منصبه الخطير!
وبقي حمزة البسيوني مديراً للسجن الحربي، ومديراً لجميع السجون الحربية!!
وتنتقل الكاميرا إلى منظر آخر في عام 1965م
ضحايا التعذيب في الزنازين يضمدون جراحهم، أجسام مصلوبة..وجوه شوهتها سياط الزبانية..ظهور مزقتها الكرابيج التي استحضرت من السودان على ظهر طائرة خاصة، جثث المسجونين، أسنان مقلوعة، بقع الدم تغطي كل جدران الزنازين، صراخ وأنين وعويل، كلاب تعوي وقد امتلأت أفواهها بالدماء.
اللواء حمزة البسيوني يدخل إلى زنزانة فيها شاب غارق في دمائه ويقول له:
- سمعت إنك كنت مهندس مباني!
- نعم..
- سوف أوقف تعذيبك إذا وضعت لي رسوم بيت جميل أقيم فيه في السجن، بدلاً من بيتي الحالي.
- حاضر!
- وإذا لم تعجبني الرسوم أصدرت أمراً باستئناف التعذيب!
ويطلب الشاب المهندس ورقاً وأقلاماً، ويبدأ في رسم قصر صغير يقيم فيه ملك التعذيب! وينتهي المهندس من الرسم، ويُعجب ملك التعذيب بالتصميم، ولكنه يعترض على أن ورق التصميم قذر..فإنه ملطخ بدم بعض المعذبين وعلى رأسهم المهندس!
ويصدر أمر ملك التعذيب بأن يشترك جميع المسجونين السياسيين في بناء القصر، ويقبل المسجونون السياسيون على العمل المتواصل بالنهار والليل، بغير انقطاع، إنها الطريقة الوحيدة ليفلتوا بها من سياط ملك التعذيب! ولم يحدث في تاريخ البناء في العالم ما حدث في بناء القصر الصغير، الذين كانوا يحملون على رؤوسهم التراب والأحجار لم يكونوا عمالاً! كانوا أطباء ومحامين وأساتذة في الجامعة ومعلمين وتجاراً وكان بينهم أستاذان في الطاقة الذرية وطبيب بيطري وبعض رجال الدين!
وتم بناء القصر في سرعة مذهلة! كان المسجونون يريدون أن يتباطأوا لكي يطيلوا مدة (الراحة) من التعذيب، ولكن السياط في أيدي الحراس كانت تضطرهم إلى مضاعفة جهودهم! وعندما انتهى بناء القصر أمر ملك التعذيب ببناء (دشم) حول القصر لتنصب عليها المدافع والرشاشات والسواتر، حتى تحول القصر إلى شبه قلعة مسلحة!
كان حمزة البسيوني يخضى دائما أن ينقض عليه المسجونون الذين عذبهم، وخلع أظافرهم ومزق أجسادهم بالسياط، ولهذا كان يحتفظ في غرفة نومه دائما بعدد من القنابل اليدوية ويضع تحت فراشه عدداً من المدافع الرشاشة، ويضع تحت وسادته مسدسين متعددي الطلقات!
وتنتقل الكاميرا إلى منظرٍ آخر في عام 1967..
نكسة 5 يونيو، الرئيس عبدالناصر يصدر قراراً بالقبض على اللواء حمزة البسيوني وإحالته إلى المعاش..
فجأة ينطلق جميع المسجونين السياسيين من زنازينهم وينقضون على القصر الذي بنوه بدمهم ودموعهم وعرقهم! وبسرعة مذهلة يحولون القصر الشامخ إلى أنقاض!
وقد كان حمزة البسيوني سعيد الحظ..لأنه لم يكن في القصر ولا في السجن، وإلا لمزقه المسجونون.
فقد قرر أن يسجن مدير السجن الحربي في معتقل القلعة..
وتنتقل الكاميرا..إلى ما قبل ذلك بسنوات! وأترك أحد زملائي في السجن الحربي يروي ما كان يحدث لنا..
كانت القاهرة منذ عام 1954 تتحدث همسا ً عن (الأوبرج)! كان الناس يقفلون أبوابهم، ثم يطلون من النافذة ليتأكدوا أن أحداً لا يسترق السمع، ثم بعد أن يتأكدوا أن الجدران ليست لها آذان، يتحدثون عما يحدث من أهوال لكل من تطأ قدماه عتبة (الأبرج)..وعرفنا يومها أن (الأوبرج) هو الاسم الذي يطلقونه على السجن الحربي! وسمعنا فيما سمعناه أن أي متهم يسوقه سوء الحظ إلى (اوبرج حمزة البسيوني) ولو لأيام معدودة، تقال له حفلة استقبال، وهذه الحفلة عبارة عن أن يعلق كالذبيحة تكريماً واحتفاءً بمقدمه السعيد، ثم تنهال عليه السياط والصفعات واللكمات وأقذر الشتائم والسباب!
وساقني القدر في منتصف ليلة سوداء، لأدخل الاوبرج، وكان في استقبالي اللواء حمزة البسيوني مدير السجون الحربية، والمؤسس للائحتها، وملكها المتوج، والخبير العالمي في شؤون التعذيب والإرهاب!
استقبلني ومعه (ميمي) و(ليلى) وهما الكلبان المعدان لاستقبال النزلاء من المسجونين السياسيين والترحيب بهم..وكان ميمي يمتاز بنابيه البارزين، اللذين يبقيان في خارج فمه إذا أغلق فمه!
والتف الكلبان بي ينهشان لحمي ويمزقان ملابسي، ثم صحبني اللواء إلى زنزانة في المعتقل رقم2، وعاد يطلق علي الكلبين يمزقان في لحمي بأنيابهما ومخالبهما. وقد علمت بعد ذلك أن كلاب حمزة البسيوني كلها مدرة على تمزيق أي إنسان يشير إليه ملك التعذيب أو أحد زبانيته، ثم أمر حمزة البسيوني بإشارة من يده للكلبين أن يتوقفا عن تمزيق ملابسي ونهش لحمي، وأطاع الكلبان في الحال! ثم أمر بإحضار مائدة ومقعد، وطلب مني كتابة تاريخ حياتي منذ أن كنت طفلا وقال لي ملك التعذيب:
- سيحضر لك الحارس كل نصف ساعة، ويأخذ منك ورقة فولسكاب مكتوبة، فإذا تباطأت، أو لم تملأ الورقة، فسوف يضربك الحارس ويطلق عليك الكلاب! كان منظر اللواء حمزة البسيوني مخيفا أكثر من منظر الكلبين (ميمي) و(ليلى)! كان طويل القامة، له شاربان ضخمان، عيناه يتطاير منهما الشرر، شفتاه غليظتان كشفتي الضبع. يتقلب وجهه بصورة متعددة، يبدو أحياناً بصورة الثعبان، ويبدو أحياناً بصورة الوحش المفترس، وفي خطوط وجهه قسوة وشراسة وعنف وبطش، وفي وجهه ندبة تشوف وجهه، وتجعله أشبه بشيطان انطلق من عقاله، في صوته مزيج من فحيح الأفعى، وعواء الذئب!
وقبل أن يغادرني ملك التعذيب التفت إلي وقال:
- إذا لم تكتب كل شيء، فلن تخرج من هذا المكان حياً! لن تكون أول ولا آخر من أدفنه هنا!
نطق هذه الكلمات ببساطة غريبة، كأنه يدعوني لتناول العشاء على مائدته، أو يدعوني لأذهب معه إلى السينما..
وخرج من الزنزانة يتبعه ميمي وليلى!
وجلست إلى المائدة أكتب ما أذكره عن نفسي بلا نوم، بلا طعام، بلا كوب ماء! وكلما تعبت من الكتابة رأيت أحد الزبانية يرقبني والسوط في يده فأعود إلى الكتابة من جديد! مكثت أكتب 48 ساعة متواصلة. فرغ مني الكلام، توقف عقلي عن التفكير، ولكني لم أستطع أن أتوقف عن الكتابة رعباً من كرباج الحارس! وأخذت أملأ الورقة بعبارة واحدة هي (والله العظيم مظلوم) وساعدني على ذلك أن الحارس الذي كان يأخذ مني الورقة أمي لا يقرأ ولا يكتب! وشجعني على ذلك أن الحارس كان ينظر إلى الورقة وهي مقلوبة، ثم يقول لي (كويس! كويس كده! اكتب كمان)!
وأكتب (كمان)! وفي صباح اليوم الثالث حضر حمزة البسيوني ملك التعذيب، وكنت كتبت أوراقاً لا أعرف لها عدداً، أغلبها صفحات كاملة كررت فيها جملة (والله العظيم مظلوم)! وفوجئت بحمزة البسيوني يشكرني على أنني تعاونت معه! وكدت أظن أنه الآخر أمي لا يقرأ ولا يكتب! ثم علمت أنه اكتفى بإحصاء عدد الصفحات التي كتبتها دون أن يقرأها!
وسألني ملك التعذيب: هل أكلت شيئاً؟
وقلت له أنني لم آكل شيئاً لمدة 48 ساعة، ولم أشرب نقطة ماء طوال يومين!
وأمر بإحضار طعام وماء، وقطعة من بطانية ثم قال: الآن يمكنك أن تأكل وتشرب وتنام!
وأكلت سريعاً، وشربت ماء الجردل كله، ثم استلقيت على بقايا البطانية، ونمت نوماً عميقاً، ولم أحس من شدة الإرهاق بجروحي ولا آثار الضرب.
وفي المساء صحوت من نومي فزعا على ركلة حذاء قدم الشاويش في بطني، والتفت الشاويش إلى أحد الحراس وقال له: عليك أن تفوق (البيه)!
وانها علي الحارس بعدد من الصفعات واللكمات والركلات حتى أفقت تماماً! ثم صحبوني إلى مكتب اللواء حمزة البسيوني حيث وجدت رجال صلاح نصر في انتظاري، والأرض تحت أقدامهم مليئة بأكوام الورق الذي كتبته!
وقام أحدهم وصفعني على وجهي صفعة شديدة وقال ساخراً: انت كاتب لنا قصة حياتك يا ابن الكلب!
وقبل أن أفتح فمي، وأقول لهم أن اللواء حمزة البسيوني هو الذي أمرني أن أكتب قصة حياتي، انهالت علي الضربات والصفعات والركلات، وسقطت على الأرض مغمى علي، وحملوني إلى زنزانتي بين الموت والحياة!
واستمر التعذيب اثني عشر يوماً..استمر بالليل والنهار!
وفي اليوم الثاني عشر أخذوني ليلاً إلى مكتب اللواء حمزة البسيوني، ووجدته في انتظاري مع عدد من ضباح صلاح نصر، وأمر كبيرهم أن أخلع ملابسي كلها، ووقفت أمامه عارياً تماماً، فأخذ يديرني في كل اتجاه ليرى آثار التعذيب على جسمي!
ثم التفت إلى حمزة البسيوني قائلاً: لا ياحمزة بك .. أنتم دللتموه جداً!
وهنا هوى الشاويش المصاحب لي بالسوط الذي يحمله على صدري في ضربة أراد أن يثبت بها لكبير رجال صلاح نصر أنهم لا يدللوني! وقد ظللت أتألم من هذه الضربة لمدة عامٍ كامل!.
وكانت مصدر عذاب أليم لي أثناء نومي!
وصاح اللواء حمزة البسيوني: لا..حرام! لا تضربوه! هات (لاكي)!
ولم أعرف من هو (لاكي) وظننت في أول الأمر أنه طبيب أو ممرض أرسل حمزة البسيوني في استدعائه ليضمد جراحي، ودهشت أن ينقلب الوحش انساناً، وملك التعذيب آدمياً ووقفت أتألم من ضرب السوط، وخيم الصمت على كل من في المكتب، في انتظار قدوم (لاكي)! وبعد دقائق رأيت هولاً! رأيت أمامي شيئاً لم تصدقه عيناي! رأيت أمامي كلباً هائلاً! لم أر في حياتي كلباً في مثل هذا الحجم، ولا هذه البشاعة، كلباً في حكم الحمار الضخم، لقد رأيت في حياتي كلاباً كثيرة من أنواع مختلفة، ولكنني لم أر مخوقاً بكل هذه البشاعة والوحشية! كان يبدو كالوحش المفترس.
دخل (لاكي) وهو يسد الباب بجسمه الضخم، وهنا أشار إليه الشاويش علي بطرف السوط، فقفز (لاكي) نحوي مهاجماً، وصرخة صرخة مِلؤها الرعب والفزع، واحتميت خلف مقعد يجلس عليه أحد ضباط صلاح نصر، وهجم الكلب على المقعد، ونالت أظافره من أقدام الضابط، الذي قفز في فزع وقال للشاويش في لهجة هستيريا (طلع الكلب ده بره)! وخرج الكلب بعد أن أحدث ارتباكاً وفزعاً بين الموجودين، وأخيراً أمسك بي كبير ضباط صلاح نصر من كتفي وقال:
- اسمع! بشرفي إن لم تكتب الاعتراف فسنأتي بخطيبتك إلى هنا، وسأجعلها تخلع ملابسها مثلك، وسأعطيها للحراس يضاجعونها أمام عينيك!
وانهرت أمام هذا التهديد .. وقلت أنني مستعد أن أكتب ما يملوه علي! وكانت حصة إملاء!
هم يملون وأنا أكتب! أشياء لم تحدث كتبتها بغير اعتراض، أحداث لم تقع، أكاذيب واضحة..كل هذا كتبته كما أملوه حتى النقط..حتى أول السطر! حتى الأغلاط في اللغة العربية!
وبعد أن انتهيت من كتابة (الاعترافات) المطلوبة صدر الأمر بعدم ضربي أو تعذيبي لأن التحقيق انتهى!
وفعلاً أخذوني إلى زنزانتي، وكف الحراس عن إيذائي وتعذيبي ولم تعد الكلاب تزورني في مواعيد محددة!
ولكن بعد يومين اثنين فوجئت بباب الزنزانة يفتح، ويدخل شاب صغير، في حوالي الخامسة عشرة من عمره، ومعه الشاويش يحمل الكرباج في يده، ومعهما الكلبة ميمي، والكلبة ليلى!
وسألني الولد الصغير في تعالٍ عن إسمي وسبب وجودي، ثم نظر إلى الشاويش وقال له (سخنه)، وانهال علي الحارس بالسوط ضرباً، ثم أشار إلى (ميمي) و(ليلى) فهجمتا علي ومزقتا ملابسي ونهشتا لحمي من جديد!
وكنت أبكي وأصرخ، والولد الصغير يضحك ويقهقه ويقول (سخنه..كمان)! ثم أقفلوا علي باب الزنزانة، وهويت على الأرض أجفف جروحي وأمسح دمي، وفجأة سمعت صراخاً ثم سمعت ضحكاً في الزنزانة المجاورة، وصوت السياط وصوت الصراخ وصوت الضحك وصوت العواء! وعرفت أن (البيه الصغير) دخل كل زنزانة في العنبر، وأصدر نفس الأوامر بالضرب ونهش الكلاب! وتساءل المسجونون السياسيون من هو هذا (الولد الصغير) الذي يباح له دخول السجن الحربي، ويصدر أوامره بجلد المسجونين السياسيين، وبأن تعضهم الكلاب! وعرفنا سر (البيه الصغير) أنه ابن أخت اللواء حمزة البسيوني، ملك التعذيب، ويدعى موسى وكان طالباً في الإعدادي، وكان يأتي للسجن الحربي للترفيه عن نفسه بضرب المسجونين وبتعذيبهم، وكان يأمر وينهى وكان الحراس يطيعونه طاعة عمياء..لأنه ابن أخت صاحب الجلالة ملك التعذيب!
وعرفنا عندئذ معنى المثل الشعبي الذي يقول (الولد لخاله)!
وبعد أيام أصدر ملك التعذيب أمره بنفيّ إلى المعتقل رقم 3، وبعد ظهر نفس اليوم سمعت ضوضاء عالية، وصوت أقدام كثيرة، ولم أعرف من هم نزلاء (الأوبرج) الجدد إلى أن أحضر الحارس وجبة العشاء وسألته عن السكان الجدد، فقال إنهم الشيوعيون!
وفي الويم التالي علمت من الحارس أن اللواء حمزة البسيوني أمر بضرب الشيوعيين (علقة) يومياً طوال مدة التحقيق!
وكان ملك التعذيب يختار زبانيته بشروط معينة، أولها الأمية، وثانيها الغباء، وثالثها ضخامة الأجسام، ثم يُلحقهم بغرفة خاصة اسمها (غرفة الإجرام) يتدربون فيها ثلاثة شهور على القسوة والوحشية وكيفية استخدام الكرباج.
وكان الكرباج الذي يستعمله الزبانية عبارة عن أسلاك كهربائية مجدولة، وكسوة بالقماش، وكانت قطعة القماش متمزقة من كثرة الاستعمال، وتآكلت طبقة الكاوتشوك العازلة، فيظهر منها أسلاك رفيعة كالإبر، تمزق الجلد، وكأنها لسعات النار.
وكان القانون الذي يحكم هؤلاء هو قانون حمزة البسيوني، وكان من حق صاحب الرتبة الأعلى أن يضرب بالسوط صاحب الرتبة الأقل دون الرجوع إلى اي مسؤول، وحسبما يتراءى له، وكثيراً ماراينا الشاويش (الرقيب) يأمر الأومباشي (العريف) أن ينام على الأرض، ويرفع ساقيه مثل أي مسجون، ثم ينهال عليه ضرباً مبرحاً، وهو بذلك يمارس حقاً أعطاه له حمزة البسيوني وكذلك يفعل العريف بوكيل العريف، ووكيل العريف بالجندي البسيط وهكذا.
وكان حمزة البسيوني يستقل (فرق الإجرام) بعد تخرجها ويخطب فيها قائلاً:
-       عندما يصدر لك الأمر بضرب مسجون مائة جلدة فمعنى ذلك أن تضربه مائتي جلدة! وعندما يصدر لك الأمر بأن تضربه خمسين سوطاً فمعنى ذلك أن تضربه مائة سوط! لا تخف إذا مات المسجون بين يديك وأنت تضربه..لو حدث ذلك فسوف أعطيك ترقية استثنائية.
أصدر اللواء حمزة البسيوني أمره بضرب جميع الشيوعيين الموجودين في السجن، وكانوا مسجونين في الطابق العلوي، وكنت أقيم في الطابق الأرضي.
ودخل الزبانية زنازين الشيوعيين وانهالوا عليهم ضرباً وصفعاً وركلاً وتعذيباً، ولما انتهوا من حملة التعذيب فوجئت بالحارس حامل الكرباج يدخل ومعه أحد الكلاب، وأسرعت أؤدي له التحية العسكرية، ضارباً بقدمي بكل شدة، طبقاً لما أمروني به من أن أؤدي التحية العسكرية لكل شرطي يدخل زنزانتي..حتى لو كانت الكلبة (ميمي) ولدهشتي سألني: هل أنت شيوعي!
-       لا يافندم!
-       أنت شيوعي!
-       أنا تهمتي انني قلت نكتة!
-       يعني شيوعي!
-       شيوعي يا أفندم وأمري لله!
-       إذن أنت تعترف أنك كنت ستقتل الريس!
-       أقتل الريس؟ أنا لم أره طوال حياتي!
-       اخرس يا كلب! انت كنت عاوز تقتل الريس! نم وارفع ساقيك! سأضربك عشرين سوطاً وإذا قلت (آه) يصبحوا أربعين سوطاً! وإذا قلت (آه) يبقوا ثمانين!
واحتملت العشرين سوطاً دون أن أجرؤ على التأوه! وكان الكلب ينهش في جسدي ولا أستطيع أن أفتح فمي! ثم انتقل الحارس إلى بقية الزنزانات ال×رى يضرب المستقلين ويضرب الإخوان المسلمين ويضرب أنصار الأحزاب السابقة! وعبثاً يقولون له أنهم غير شيوعيين، وأنهم ضد الشيوعية!
فالحارس الجاهل لا يعرف معنى الشيوعية ولا الاشتراكية ولا الأحزاب. كل من هو في الزنزانة هو شيوعي مادام الأمر صدر بضرب الشيوعيين!
واستمر ضربي طوال فترة ضرب الشيوعيين، وعندما أفرج عنهم ضربوني مع الإخوان المسلمين!
بقيت في السجن الحربي شهرين ونصف الشهر، وأسرتي لا تعرف أين أنا! لا أنا حيٌ تزوره، ولا ميت تبكيه! ويدور أهلي على كل الجهات يسألون عني، فيكون الجواب الوحيد (لا نعلم عنه شيئاً)!
واستطعت أن أهرّب خطاباً إلى أهلي! وأخبرتهم أنني مسجون في السجن الحربي.
وحضرت أسرتي إلى السجن الحربي وطلبوا زيارتي فقال لهم اللواء حمزة البسيوني أنه لا يوجد عند سجين بهذا الاسم! واستطاعت أسرتي بعد إصرار وإلحاح أن تزورني في عيد الأضحى.
كان حمزة هو الملك!
وكلاب السجن هم أصحاب السمو الأمراء!
فقد كان بالمعتقل رقم 3 مجموعة من الكلاب أكبرها (لاكي) والعياذ بالله، وكان عمره 12 سنة، وكان هناك الكلب (ركس) الذي يعتز به حمزة البسيوني لأه أقوى الكلاب وأكثرها فتكاً وشراسة، والكلبة (عنايات) زوجة ركس، وكانت حاملاً منه وكانت هناك الكلبة (جولدا) في مرحلة البلوغ.
كانت الكلاب كلها تعرف حمزة البسيوني، وتحس بوجوده عن بعد، وتأخذ في العواء مرحبة بمقدمه السعيد، وكانت تعدو إلى باب المعتقل الحديدي لاستقباله.
وكان أفخر أنواع اللحم مخصصاً للكلاب، وأحقر أنواعه مخصصاً للمسجونين السياسيين، وكانت الصينية المليئة باللحم يحملها الحراس يومياً من المطبخ إلى الكلاب، ثلاث مرات كل يوم، وكان ما بها من اللحم أكثر من اللحم الذي يكفي ألف مسجون.
وتأكل الكلاب حتى تشبع..وبعد ذلك يأكل الحراس ما تبقى من الكلاب! والويل للحارس الذي يجرؤ أن يأكل من اللحم قبل أن تنتهي الكلاب من طعامها!
إنهم يجلدونه حتى يتمزق لحمه، ثم يدعون الكلاب لتنهش لحمه، عقاباً على أنه جَرؤ وأكل قبل الكلاب المحظوظين!
وذات يوم جاءنا أحد الضباط يحمل لنا بشرى!
أن سعادة ملك التعذيب قرر أن يختار أربعة من المسجونين السياسيين ليكونوا خدماً للكلاب!
وأن سعادته اشترط أن يكون خدم الكلاب من حملة الشهادات الجامعية!
ووقع الاختيار على خريجٍ من كلية الآداب، وخريج من كلية العلوم، وخريج من كلية الهندسة، وخريج من كلية الطب ليكونوا في خدمة الكلاب! وكنت واحداً من الذين اختيروا لهذا الشرف الكبير!
وكانت مهمتنا هي أن نتولى غسل الكلاب يومياً بالماء والصابون والعناية الدائمة بها ورعايتها وملاعبتها!
وفوجئنا بقصة غرام تبدأ بين الكلاب! فعندما وصلت الكلبة جولدا إلى سن البلوغ، بدأ الكلب ركس يحوم حولها مداعباً ومغازلاً!
وكانت الكلبة (عنايات) زوجة ركس بالمرصاد لزوجها الدون جوان!
وكانت مهمتنا، بناءً على أمر اللواء حمزة البسيوني، أن نمنع أي علاقة غرابين بين الكلب ركس، والكلبة جولدا..فكنا نحرص على ألا نتركهما يجتمعان أبداً على انفراد..حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه!
وذات ليلة، وبينما نحن نيام في زنزانتنا المغلقة سمعنا الكلاب تنبح بشدة، وهي تتعارك وتتقاتل وتنبح..ثم هذأ كل شيء بعد فترة.
وفي الصباح، وبعد فتح الزنزانات، فوجئنا بالكلبة عنايات قتيلة، وقد نهش جسمها مزق بوحشية، بينما برزت أحشاؤها بما كانت تحمله من كلاب صغار لم تكتمل خلقتها.
وعلمنا أن الكلبة (عنايات) ضبطت في الليل زوجها الكلب ركس، في وضع غرامي مع الكلبة جولدا، وأرادت عنايات أن تحتج على هذا الفعل الفاضح في الطريق العام، ولم يطق العاشقان هذه الغيرة العمياء من الزوجة، فهجم الزوج والعشيقة على الزوجة عنايات وانتهت بمصرع عنايات وهي تستنزل اللعنات على الأزواج الخونة من الكلاب!
ورأيت الدم يلوث فم كل من الكلب ركس والكلبة جولدا، مما يؤكد أنهما القاتلان المجرمان!
وأعلنت حالة الطوارئ في السجن الحربي..
وحضر اللواء البسيوني على عجل، لمعاينة الحادث الجلل، وكان الضباط والجنود يقدمون له العزاء في الفقيدة العزيزة عنايات!
وكان الرجل الذي لم تسقط من عينه دمعة واحدة حزنا على العشرات الذين قتلهم من التعذيب، يبكي على عنايات!
ووقفنا نحن خدم عنايات الأربعة في رعب خشية أن يتهمنا ملك التعذيب..بالتهاون والإهمال الذي أدى إلى مصرع السيدة عنايات!
وجاءنا أحد الضباط يقول لنا:
-       حظكم المساء! انكم ولدتم اليوم أنتم الأربعة من جديد، لولا أن الحادث وقع في الليل أثناء وجودكم في الزنازين المغلقة لاعتبركم سيادة اللواء مسؤولين عن صمرع عنايات وعلقكم أنتهم الأربعة في المشانق! ولهذا اكتفى سيادة اللواء بجلد كل الحرس من حراس الليل مائة جلدة، وحبس كل واحد منهم لمدة سنة!
ولم نتمالك أنفسنا وصحنا: يحيا العدل..
ثم فوجئنا بملك التعذيب يقرر محاكمة الكلبين العاشقين! ويصدر حكمهن بأن يمسك كل مسجون سياسي بقطعة خشب أو مكنسة ويطارد ركس وجولدا من ركن إلى ركن في فناء السجن، وكان الحراس يمسكون الكلبين ويأخذونهما إلى مكان الحادث ليشما رائحة الفقيدة عنايات، ثم تنهال عليهما العصي ضرباً!
وحدث لسوء حظ الحراس حادث جلل، فإن أحدنا ضرب الكلب (ركس) ضربة خطأ أصابته في عينيه!
لطم الحراس وجوههم..وصرخوا..وولولوا وقالوا (روحنا في داهية)!، وأسقط في أيدينا، وتوقفنا عن الحركة، تسمرنا في أماكننا، وكأن على رؤوسنا الطير..
واتفقنا مع الحراس على اخفاء الخبر عن ملك التعذيب، وأخذنا نعالج الكلب يومياً في عيادة السجن أثناء غياب ملك التعذيب، وساعدنا على ذلك أن حمزة البسيوني أصدر أمراً بمنع زيارة الكلبين ركس وجولدا لسيادته يومياً، مع باقي الكلاب، عقاباً لهما على جريمتهما الشنعاء!
وتم شفاء الكلب ركس، وتصورنا أن السجن سينتهي من فترة الحداد! وإذا حادث جلل آخر يقع، اهتزت له جدران السجن، فإن الكب (لاكي) امتنع فجأة عن تناول الطعام!
وأصبنا نحن حدم الكلاب بالرعب! وأصيب الحراس بالفزع وأصيب الضباط بالمغص الكلوي!
وأمر ملك التعذيب بإرسال الكلب إلى المستشفى البيطري للكشف عليه، وقال الأطباء البيطريون أنه مرض الشيخوخة، وأنه سيموت من عدم الأكل، وأشاروا إلى قتله رحمة به!
وتم قتله رمياً بالرصاص، في احتفال رسمي مهيب، وتم دفنه في مقبرة مجاورة لقبر ابنته الفقيدة السيدة عنايات!
وحزن ملك التعذيب حزنا شديداً، وبكى بكاءً مراً، وأعلن حالة الحداد على الكلب الذي عض ألوف الأبرياء ونهش لحم ألوف المسجونين والمعذبين، ودخل علينا أحد الحراس، ورآنا نحن خدم الكلاب الأربعة جالسين في الزنزانة صامتين، وانها علينا الحارس ضرباً بالسوط وهو يقول:
-       ابكوا! ابكوا يا أولاد الكلب! سيدكم (لاكي) مات!
واضطررنا أن نبكي على الكلب الذي نهش لحمنا!
 
ـــــــ
المصدر: سنة أولى سجن تأليف مصطفى أمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق