السبت، 22 فبراير 2014

اليمين على من أنكر



اليمين على من أنكر
وقف أمام القاضي، فأنكر أنه مدين بمبلغ خمسمائة والف من الدنانير لورثة الحاج إبراهيم محمد، فطلب منه القاضي أن يقسم بالقرآن الكريم، بأن الحاج إبراهيم لم يدفع له في يوم من الأيام هذا المبلغ، وأنه ليس مديناً له، فأقسم ثم غادر المحكمة بعد أن أفرج عنه القاضي ونطق بالحكم عليه بالبراءة.
ولم يكد يتخطى عتبة المحكمة إلا وسقط على الأرض ميتاً!
ذلك ما حدث في عام 1954م في مدينة ما من مدن العراق، ولكن القصة لا تبدأ هكذا، فلنذكر القصة كما حدثت:
كان الحاج إبراهيم محمد من التجار الكبار، وكان لا يرد طلب طالب، ولا يخيب رجاء قاصد.

وفي يوم من الأيام قصده السيد (...) في مكتبه الكائن في خان الشط المطل على نهر دجلة، وعرض عليه أمره.
وقال السيد (...) للحاج إبراهيم: إنني جارك، وقد كان والدي من أصدقائك المقربين، وحين حضرته الوفاة أوصاني أن ألجأ إليك إذا حزّ بي أمر أو ضايقتني أعباء الحياة.
إن الزروع في هذه السنة كما تعلم لم تعط ثمن بذارها، فقد امحلت الأرض، وانقطع المطر، وساء الحال، فلا أعرف كيف أدبر حالي.
وكنت قد استقرضت مالاً من المصرف، فلابد لي من دفع ديوني له وإلا افتضح أمري وشمت بي الأعداء...واليوم أتيتك لتقرضني خمسمائة وألفاً من الدنانير، لأدفع الدين الذي في عنقي لمصرف الرافدين، وأشتري البذار (وأدبر حالي)، وموعدي معك لوفاء دينك عليّ في موسم حصاد الحنطة والشعير في العام المقبل.
وقام الحاج إبراهيم إلى خزانة نقوده في مكتبه، وأخرج منها المبلغ ودفعه إلى السيد (...) وسجل المبلغ في دفتر الحسابات.
وأبدى المدين شكره وأظهر امتنانه، وأصرّ على كتابة سفتجة –كمبيالة- ولكن الحاج إبراهيم قال له: لا شكر على الواجب، وبيني وبينك الله، فهو نعم الوكيل، ونعم الشهيد.
وبعد سنة تقريباً من هذا الحادث، مات الحاج إبراهيم بالسكتة القلبية، وترك زوجة وأربعة أطفال، أكبرهم في الثالة عشرة من عمره.
وراجعت زوج الرجل دفاتر زوجها وسجلاته التجارية، وأعانها على ذلك أخوها المحامي، فعرفت ما في بطون أوراقه بتفصيلات ما لزوجها من ديون على الناس.
ومرت الأيام والشهور على موت زوجها، فبعثت إلى السيد (...) تطالبه بما لزوجها عليه من دين، ولكن السيد (...) أنكر أنه مدين بشيء لزوجها، وزعم أنه دفع ما كان عليه من دين إلى زوجها، وربما نسي زوجها أن يوثق قيد الدين في سجلاته.
وتسامع الناس بالحادث، وكان بعضهم قد سمع بأن الحاج إبراهيم كان قد أقرض السيد (...) بعض المال، فزعم للناس أنه وفّى للحاج إبراهيم دينه، ولو كان مشغول الذمة لعثر ورثة الحاج إبراهيم على سند الدين في مخلفاته..
وانقسم الناس في المحلة من الجيران إلى قسمين: قسم يؤيد ورثة الحاج إبراهيم ويذكرون أنه يقرض النقود حسبة لله بدون مستند أو سفتجة، وقسم يؤيدون السيد (...) بأنه ليس من المعقول أن يدفع الحاج إبراهيم مبلغاً من النقود للسيد (...) بدون مستند أو سفتجة.
والتجأت زوج الحاج إبراهيم إلى بعض أهل الخير في المحلة ليحملوا السيد (...) على تبديل موقفه، ولكنه أعرض وأصرّ وتمادى واستكبر، كأنه صخرة عاتية من صخور الجبال.
وكما أن آخر الدواء الكي، فإن آخر مطاف المتنازعين المحاكم...
ووكلت زوج الحاج إبراهيم أخاها المحامي ليعرض شكواها على المحاكم...
وجاء يوم المحاكمة، وحضر المتهم إلى ساحة المحكمة.
وأترك الكلام الآن للحاكم الأستاذ (...) الذي قص عليّ تفصيلات المحاكمة، فكان مما قاله: ((كنت في قرارة نفسي مقتنعاً بأن السيد (...) مدين للحاج إبراهيم بهذا المبلغ.
ولكن لم يكن هنالك دليل مادي غير تسجيل هذا المبلغ بخط الحاج إبراهيم في سجل ديونه على الناس، وهذا الدليل وحده لا يكفي لإثبات التهمة.
ولم ينكر السيد (...) بأنه استقرض هذا المبلغ من الحاج إبراهيم، ولكنه أفاد بأنه أعاد المبلغ إلى صاحبه بعد سنة من استقراضه.
وشهد أحد الرجال، بأنه سمع السيد (...) يثني على الحاج إبراهيم، ويذكر أنه انتشله من وحدة الفقر والحرمان بإقراضه بعض المال حسبة لله، ولكن الشاهد لم يتذكر مقدار المبلغ ولا وقت سماعه حديث السيد (...).
كانت القضية كلها كريشة في مهب الريح، فحاولت أن أجر المتهم إلى الاعتراف بالدين، لكنه كان يفلت من الاستجواب.
إن المحاكم في هذه القضية، تطبق المبدأ القضائي: البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.
وقلت للمتهم: هل تقسم بالقرآن الكريم، بأنك لست مديناً للحاج إبراهيم بهذا المبلغ ولا بغيره، وأنك دفعت ما كان له عليك من دين؟.
وقال المتهم: اُقسِم ... ثم أَقسَم.
ونطقت بالحكم: البراءة..
وخرج المتهم مرفوع الرأس شامخاً من المحكمة، وكان ذا هامة وقامة، صحيح البدن قوي البنية، سليماً معافى وهو في ريعان الشباب...
وما كان يغادر المحكمة ومعه المستمعون إلا وسمعت ضجة خارج المحكمة، فهرعت لأتبين جلية الأمر..وصعقت لأنني وجدت المتهم الذي كان ماثلاً أمامي قبل لحظات معدودات في أوج صحته، وعنفوان شبابه، وكمال رجولته، ممتداً على الأرض، جاحظ العينين، مفتوح الفم، أصفر الوجه، كأنه (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)..إبراهيم:26.
وهتف الناس من حوله لقد مات)).
كانت زوج الحاج إبراهيم تسكن في دار قريبة من داري وكانت لها صلة قربى بأهلي..
واشتقت أن أسمع القصة منها، فسألتها عن الخبر، فكان مما قالته:
((كان المرحوم الحاج إبراهيم باراً بجيرانه خاصة وبالناس عامة، وكان يقرض المحتاجين، ويكتفي بتسجيل قرضه في سجل خاص..
وكنت ألومه على ذلك فيقول: المال مال الله، وقد كنت فقيراً فأغناني، وكنت يتيماً فآواني، فلن أقهر يتيماً، ولن أنهر سائلاً...
وكان يختم كلامه كل مرة بقوله: ياليت لي في كل قبر ديناً.
وشهدت محاكمة السيد (...) وأصغيت إلى أقواله، وكنت لا أشك بأن الله يسمع ويرى.
وحكم القاضي بالبراءة بعد أن أقسم المتهم اليمين، فلما أقسم اليمين اقشعر بدني، فقد كنت مؤمنة بأنه كاذب وأنه تجرأ على كتاب الله عز وجل..
وقلت أخاطب الله سبحانه وتعالى: إنك تعلم السر وأخفى، وأنك علام الغيوب، فإن كان السيد (...) كاذباً في قسمه فاجعله عبرة للناس..
يا قوي يا جبار..
وخرج المتهم من المحكمة وأنا أنظر إليه، ولكنه سقط ميتاً على بعد خطوات من باب المحكمة))..
لقد نجا السيد (...) من حاكم من حكام الارض ولكنه لم ينج من حاكم الأرض والسماوات، ولم يكن الصراع يدور بينه وبين ورثة الحاج إبراهيم، بل كان الصراع يدور بينه وبين جبار السماوات والأرض..
وفي ليلة من ليالي الشتاء العاتية، حين كان البرد قاسياً والمطر مدراراً، وحين كان الناس يأوون إلى مضاجعهم لا يغادرونها ناعمين بالدفء والحرارة..
في ذلك الوقت، وفي ساعة متأخرة من الليل البهيم، كان جرس دار الحاج إبراهيم يرن قوياً متواصلاً...
وكان على الباب امرأة متشحة بالسواد، يرافقها طفل في السادسة من عمره..
وفتحت زوج الحاج إبراهيم الباب لترى من الطارق، فوجدت زوج السيد (...) ومعها ولدها الوحيد..
وقالت زوج السيد (...) للسيدة زوج الحاج إبراهيم: ((لقد أنكر زوجي بأنه مدين للحاج إبراهيم، ولكنني كنت أعرف بأنه كاذب ورجوت أن يسدد ما عليه من دين، وألححت في رجائي وألحفت، ولكنه "ركب رأسه"، ومضى في غيه..
لقد دفع زوجي ثمن كذبه غالياً، وهذا هو المبلغ الذي كان مدينا به لزوجك))
وألقت بكيس فيه خمسمائة وألف من الدنانير، ثم عادت مسرعة أدراجها إلى دارها، ومن ورائها ابنها..قبل أن تسمع كلمة من زوج الحاج إبراهيم...
وبقيت زوج الحاج إبراهيم على باب دارها تنظر شبحين يخبان حتى لفهما الظلام.
وآوت إلى فراشها، وهي تستمع إلى هطول المطر، وعويل الرياح الأهوج...
وتذكرت قصة حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام رضي الله عنه:
قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بدينه، ويقول: إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت! من مولاك؟ قال: الله تعالى...فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير! اقض عنه، فيقضيه، وإنما كان دينه الذي عليه، أن الرجل يأتيه بالمال يستودعه إياه، فيقول: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه من الضيعة، قال عبدالله: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائة ألف، وقتل ولم يدع ديناراً ولا درهماً إلا أرضين بعتهما وقضيت دينه، قال بنو الزبير: ميراثنا؟! فقلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، فلما انقضت أربع سنين قسم بينهم، فنال كل وارث حقه كاملاً..
لقد قضى مولى الزبير عن الزبير دينه..
كان واثقاً من الله فلم يخيب الله ظنه به..
والله مولى الناس جميعاً، لا مولى الزبير وحده..
ولكن أكثر الناس ينقصهم الإيمان المطلق والثقة المطلقة بالله تعالى...
الله لا ينسى النملة في الصخرة وسط البحر المالح الأجاج، فيرسل إليها رزقها من حيت لا تحتسب، لا ينسى أرزاق عباده الآخرين.
وشتان بين الرزق الطيب الحلال، وبين الرزق الخبيث.
أيها القطيع الهائم على وجهه في متاهات الكفر والضلال الحرام..
إن الثقة بالله والإيمان برسالات السماء، هما الطريق للخير والسعادة والبركة..
إيمان كبعض إيمان الزبير، وثقة كبعض ثقة الزبير، وسيقضي عنكم مولاكم كل دين، ويرفع عنكم كل كربة، ويجعل من عسركم يسراً وتنهمر عليكم بركات الأرض والسماء..
من هنا الطريق...
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)..الأعراف:187


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: عدالة السماء تأليف اللواء الركن/ محمود شيت خطّاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق