عروةُ بن
الزُّبير
(من سرّه
أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزُّبير) .. علقمةُ بن مرثِد.
ما كادت
شمس الأصيل تلملم خويطها الذهبية عن بيت الله الحرام، وتأذن للنسمات الندية بأن
تتردد في رحابه الطاهرة...حتى شرع الطائفون بالبيت من بقايا صحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكبار التابعين؛ يعطرون الأجواء بالتهليل والتكبير، ويترعون
الأرجاء بصالح الدعاء.
وحتى أخذ
الناس يتحلقون زمراً زمراً حول الكعبة المعظمة، الرابضة وسط البيت في مهابة وجلال.
ويملأون عيونهم
من بهائها الأسنى، ويديرون بينهم أحاديث لا لغو فيها ولا تأثيم.
وبالقرب من
الركن اليماني جلس أربعة فتيان صِباح الوجوه، كرام الأحساب، معطّري الأردان –الردن
طرف الكم الواسع- كأنهم بعض حمامات المسجد نَصَاعَة أثواب، وأُلفة قلوب.
هم
عبدالله بن الزبير، وأخوه مصعب بن الزبير، وأخوهما عروة بن الزبير، وعبدالملك بن
مروان.
ودار الحديث
رهوا بين الفتية الأبرار، ثم ما لبث أن قال قائل منهم: لِيَتَمَنّ كل منا على الله
ما يحب...
فانطلقت
أخيلتهم تحلق في عالم الغيب الرحب، ومضت أحلامهم تطوف في رياض الأماني الخضر، ثم
قال عبدالله بن الزبير: أمنيتي أن أملك الحجاز، وأن أنال الخلافة...
وقال
أخوه مصعب: أما أنا فأتمنى أن أملك العراقين –الكوفة والبصرة-، فلا ينازعني فيهما
منازع.
وقال عبدالملك
بن مروان: إذا كنتما تقنعان بذاك، فأنا لا أقنع إلا بأن أملك الأرض كلها...وأن
أنال الخلافة بعد معاوية بن أبي سفيان...
وسكت عروة
بن الزبير فلم يقل شيئاً...فالتفتوا إليه، وقالوا: وأنت ماذا تتمنى يا عروة؟
فقال:
بارك الله لكم فيما تمنيتم من أمر دنياكم...
أما أنا
فأتمنى أن أكون عالماً عاملاً؛ يأخذ الناس عني كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأحكام
دينهم...وأن أفوز في الآخرة برضى الله، وأحظى بجنته...
ثم دارت
الأيام دورتها؛ فإذا بعبدالله بن الزبير يُبايَع له بالخلافة عقب موت يزيد بن
معاوية فيحكم الحجاز، ومصر، واليمن، وخراسان، والعراق...
ثم يقتل
عند الكعبة غير بعيد عن المكان الذي تمنى فيه ما تمنى.
وإذا بمصعب
بن الزبير يتولى إمرة العراق من قبل أخيه عبدالله، ويقتل هو الآخر دون ولايته
أيضاً.
وإذا بعبد
الملك بن مروان تؤول إليه الخلافة بعد موت أبيه، وتجتمع عليه كلمة المسلمين بعد
مقتل عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب على أيدي جنوده...ثم يغدو أعظم ملوك الدنيا في
زمانه.
فما كان
من أمر عروة بن الزبير؟...
تعالوا نبدأ
قصته من أولها.
ولد عروة
بن الزبير لسنة واحدة بقيت من خلافة الفاروق رضوان الله عليه في بيت من أعز بيوت
المسلمين شأناً، وارفعها مقاماً.
فأبوه،
هو الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من سل سيفاً في
الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
وأمه، هي
أسماء بنت أبي بكر الملقبة بذات النطاقين.
وجده لأمه،
هو أبوبكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه في الغار.
وجدته لأبيه،
هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخالته،
هي أم المؤمنين عائشة عليها رضوان الله.
فقد نزل
إلى قبرها حين دفنت بنفسه، وسوى عليها لحدها بيديه.
أفتظن أن
بعد هذا الحسب حسباً...
وأن فوق
هذا الشرف شرفاً غير شرف الإيمان وعزة الإسلام؟
ولكي يحقق
عروة أمنيته التي تمناها على الله عند الكعبة المعظمة أكب على طلب العلم وانقطع
له، واغتنم البقية الباقية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم...فطفق يؤم
بيوتهم، ويصلي خلفهم، ويتتبع مجالسهم، حتى روى عن علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن
عوف، وزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد، وأبي هريرة،
وعبدالله بن عباس، والنعمان بن بشير.
وأخذ كثيراً
عن خالته عائشة أم المؤمنين، حتى غدا أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يفزع إليهم
المسلمون في دينهم.
ويستعين بهم
الولاة الصالحون على ما استرعاهم الله جل وعز من أمر العباد والبلاد.
من ذلك
أن عمر بن عبدالعزيز حين قدم المدينة والياً عليها من قبل الوليد بن عبد الملك
جاءه الناس فسلموا عليه...فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة، وعلى رأسهم
عروة بن الزبير...
فلما صاروا
عنده رحب بهم، وأكرم مجالسهم، ثم حمد الله جل وعز وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون لي فيه أعواناً على الحق...فأنا لا أريد أن
أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم.
فإن رأيتم
أحداً يتعدى على أحد، أو بلغكم عن عامل لي مظلمة فأسألكم بالله أن تبلغوني ذلك.
فدعا له
عروة بن الزبير بخير، وجا له من الله السداد والرشاد.
وقد جمع
عروة بن الزبير العلم إلى العمل، فقد كان صوّاما في الهواجر...قوّاما في العتمات،
رطب اللسان دائما بذكر الله تعالى.
وكان إلى
ذلك خدينا –مصاحبا- لكتاب الله جل وعز، عاكفاً على تلاوته...فكان يقرأ ربع القرآن
كل نهار نظرا في المصحف...ثم يقوم به الليل تلاوة عن ظهر قلب..
ولم يعرف
عنه أنه ترك ذلك منذ صدر شبابه إلى يوم وفاته غير مرة واحدة لخطب نزل به سيأتيك
نبؤه بعد قليل.
لقد كان
عروة بن الزبير يجد في الصلاة راحة نفسه، وقرة عينه، وجنته على الأرض، فيحسنها كل
الإحسان، ويتقن شعائرها أتم الإتقان، ويطيلها غاية الطول...
روي عنه
أنه رأى رجلا يصلي صلاة خفيفة، فلما فرغ من صلاته دعاه إليه وقال له: يا بن أخي،
أما كانت لك عند ربك جل وعز حاجة؟!..والله إني لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي كل
شيء حتى الملح.
وقد كان
عروة بن الزبير رضوان الله عليه سيخي اليد سمحا جوادا...ومما أثر عن جوده أنه كان
له بستان من أعظم بساتين المدينة...عذب المياه، ظليل الأشجار، باسق النخيل...وكان
يسور بستانه طوال العام؛ لحماية أشجاره من أذى الماشية وعبث الصبية، حتى إذا آن
أوان الرطب وأينعت الثمار وطابت، واشتهتها النفوس...كسر حائط بستانه في أكثر من
جهة ليجيز للناس دخوله...
فكانوا يُلمّون
به ذاهبين آيبين، ويأكلون من ثمره ما لذ لهم الأكل، ويحملون منه ما طاب لهم الحمل.
وكان كلما
دخل بستانه ردد قول الله جل وعز:(ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله لا قوة إلا
بالله).
وفي ذات
سنة من خلافة الوليد بن عبدالملك شاء الله جل وعز أن يمتحن عروة بن الزبير امتحانا
لا يثبت له إلا ذوو الأفئدة التي عمرها الإيمان وأترعها اليقين.
فلقد دعا
خليفة المسلمين عروة بن الزبير لزيارته في دمشق؛ فلبى دعوته، وصحب معه أكبر
بنيه...ولما قدم على الخليفة رحب بمقدمه أعظم الترحيب، وأكرم وفادته أوفى الإكرام،
وبالغ في الحفاوة به.
ثم شاء
الله سبحانه بأن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
ذلك أن
ابن عروة دخل على إصطبل الوليد ليتفرج على جياده الصافنات، فرمحته دابة رمحة قاضية
أودت بحياته.
ولم يكد
الأب المفجوع ينفض يديه من تراب قبر ولده، حتى أصابت إحدى قدميه الآكلة.
فتورمت ساقه،
وجعل الورم يشتد ويمتد بسرعة مذهلة. فاستدعى الخليفة لضيفه الأطباء من كل
جهة...وحضهم على معالجته بأي وسيلة...لكن الأطباء أجمعوا على أنه لا مندوحة من بتر
ساق عروة قبل أن يسري الورم إلى جسده كله، ويكون سببا في القضاء عليه...فلم يجد
بداً من الإذعان لذلك.
ولما حضر
الجراح لبتر الساق، وأحضر معه مباضعه لشق اللحم، ومناشيره لنشر العظم، قال الطبيب
لعروة: أرى أن نسقيك جرعة من مسكر لكي لا تشعر بآلام البتر المبرحة.
فقال:
هيهات...لا أستعين بحرام على ما أرجوه من العافية.
فقال له:
إذن نسقيك المخدر.
فقال:ما
أحب أن أسلب عضوا من أعضائي دون أن أشعر بألمه، وأحتسب ذلك عند الله.
ولما هم
الجراح بقطع الساق، تقدم نحو عروة طائفة من الرجال فقال: ما هؤلاء؟!...
فقيل له:
لقد جيء بهم ليمسكوك، فلربما اشتد عليك الألم؛ فجذبت قدمك جذبة أضرت بك.
فقال:
ردوهم...
لا حاجة
لي بهم، وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك بالذكر والتسبيح...ثم أقبل عليه الطبيب؛ فقطع
اللحم بالمبضع...ولما بلغ العظم، وضع عليه المنشار وطفق ينشره به، وعروة يقول:
لا إله
إلا الله، والله أكبر.
وما فتئ
الجراح ينشر، وعروة يهلل ويكبر حتى بترت الساق بتراً. ثم أغلي الزيت في مغارف
الحديد، وغمست به ساق عروة لإيقاف تدفق الدماء، وحسم الجراح، فأغمي عليه إغماءة
طويلة حالت دونه ودون أن يقرأ حصته من كتاب الله في ذلك اليوم...
وكانت المرة
الوحيدة التي فاته فيها ذلك الخير منذ صدر شبابه.
ولما صحا
عروة، دعا بقدمه المبتورة، فناولوها إياه...فجعل يقلبها بيده وهو يقول: أما والذي
حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد؛ إنه ليعلم أنني ما مشيت بك إلى حرام قط...
ثم تمثل
بأبيات لمعن بن أوس يقول فيها:
لعمرك مـا
أهويت كفي لريبـة *** ولا حملتني نحو فاحشـة رجـلي
ولا قادني
سمعي ولا بصري لها *** ولا دلـني رأي عليهـا ولا عقلي
وأعلـم أني
لم تصبني مصيبـة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
وقد شق
على الوليد بن عبدالملك ما نزل بضيفه الكبير من النوازل...
فقد احتسب
ابنه، وفقد ساقه في أيام معدودات؛ فجعل يحتال لتعزيته وتصبيره على ما أصابه.
وصادف أن
نزل بدار الخلافة جماعة من بني عبس فيهم رجل ضرير، فسأله الوليد عن سبب كف بصره،
فقال: يا أمير المؤمنين لم يكن في بني عبس رجل أوفر مني مالاً، ولا أكثر أهلاً
وولداً.
فنزلت مع
مالي وعيالي في بطن واد من منازل قومي، فطرقنا سيل لم نرَ مثله قط...
فذهب السيل
بما كان لي من مالٍ، وأهل وولد...ولم يترك لي غير بعير واحد، وطفل صغير حديث
الولادة.
وكان
البعير صعبا فَنَـدّ مني...فتركت الصبي على الأرض ولحقت بالبعير..
فلم أجاوز
مكاني قليلاً حتى سمعت صيحة الطفل..فالتفت فإذا رأسه في فم الذئب وهو يأكله..
فبادرت إليه،
غير أني لم أستطع إنقاذه إذ كان قد أتى عليه...
فلحقت بالبعير
فلما دنوت منه؛ رماني برجله على وجهي رمية حطمت حبيني، وذهبت ببصري...
وهكذا وجدت
نفسي قد غدوت في ليلة واحدة من غير أهل، ولا ولد، ولا مال، ولا بصر...فقال الوليد
لحاجبه: انطلق بهذا الرجل إلى ضيفنا عروة بن الزبير، وليقص عليه قصته؛ ليعلم أن في
الناس من هو أعظم منه بلاء.
ولما حمل
عروة بن الزبير إلى المدينة وأدخل على أهله، بادرهم قائلاً: لا يهولنكم ما
ترون...فلقد وهبني الله عز وجل أربعة من البنين، ثم أخذ منهم واحدا وأبقى لي
ثلاثة...فله الحمد.
وأعطاني أربعة
من الأطراف، ثم أخذ منها واحداً وأبقى لي ثلاثة...فله الحمد.
وأيم الله،
لئن أخذ الله مني قليلاً، فلقد أبقى لي كثيراً...
ولئن
ابتلاني مرة، فلطالما عافاني مرات...
ولما عرف
أهل المدينة بوصول إمامهم وعالمهم عروة بن الزبير تسايلوا على بيته ليواسوا
ويعزوا...
فكان من
أحسن ما عزي به كلمة إبراهيم بن محمد بن طلحة حيث قال له: أبشر –يا أبا عبدالله-
فقد سبقك عضو من أعضائك، وولد من أبنائك إلى الجنة...
والكل يتبع
البعض إن شاء الله..
ولقد أبقى
الله لنا منك ما نحن إليه فقراء وعنه غير أغنياء من علمك، وفقهك، ورأيك...نفعك
الله وإيانا به...والله ولي ثوابك، والضمين بحسن حسابك.
ظل عروة
بن الزبير للمسلمين منارة هدى، ودليل فلاح، وداعية خير طوال حياته...
ولقد اهتم
أكثر ما اهتم بتربية أولاده خاصة، وسائر أبناء المسلمين عامة؛ فلم يترك فرصة
لتوجيههم إلا اغتنمها، ولم يدع سانحة لنصحهم إلا أفاد منها.
من ذلك
أنه دأب على حض بنيه على طلب العلم، إذ كان يقول لهم: يا بني تعلموا العلم، وابذلوا
له حقه...فإنكم إن تكونوا صغار قوم؛ فعسى أن يجعلكم الله بالعلم كبراءهم.
ثم يقول:
واسوأتاه، هل في الدنيا شيء أقبح من شيخ جاهل؟!!
وكان يدعوهم
إلى عد الصدقة هدية تهدى لله جل وعز، فيقول: يا بني، لا يُهدين أحدكم إلى ربه ما
يستحي أن يهديه إلى عزيز قومه...فإن الله تعالى أعز الأعزاء، وأكرم الكرماء، وأحق
من يُختار له.
وكان يبصرهم
بالناس، وينفذ بهم إلى جوهرهم فيقول: يا بني إذا رأيتم من رجل فَعلة خير رائعة
فأملوا به خيراً، ولو كان في نظر الناس رجل سوء؛ فإن لها عنده أخواتٍ...
وإذا
رأيتهم من رجل فعلة شرّ فظيعة فاحذروه، وإن كان في نظر الناس رجل خير؛ فإن لها
عنده أخوات أيضاً.
واعلمنوا
أن الحسنة تدل على أخواتها...وأن السيئة تدل على أخواتها أيضاً.
وكان يوصيهم
بلين الجانب،وطيب الكلام، وبِشر الوجه فيقول: يا بني، مكتوب في الحكمة (لتكن كلمتك
طيبة، وليكن وجهك طلقا، تكن أحب إلى الناس ممن يبذل لهم العطاء).
وكان إذا
رأى الناس يجنحون إلى الترف، ويستمرئون النعيم يذكرهم بما كان عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم من شظف العيش، وخشونة الحياة.
من ذلك
ما حكاه محمد بن المنكدر قال: لقيني عروة بن الزبير فأخذ بيدي وقال: يا أبا
عبدالله.
فقلت:
لبيك.
فقال:
دخلت على أمي عائشة رضي الله عنها فقالت:
يا بني...
فقلت:
لبيك.
فقالت:
والله إن كنا لنمكث أربعين ليلة ما نوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنار
مصباحا ولا غيره.
فقلت: يا
أمة، فيم كنتم تعيشون؟!
فقالت:
بالأسودين...التمر والماء.
وبعد...فقد
عاش عروة بن الزبير واحدا وسبعين عاما مترعة بالخير، حافلة بالبر، مكللة بالتقى.
فلما جاءه
الأجل المحتوم أدركه وهو صائم...
ولقد ألح
عليه أهله أن يفطر فأبى...
لقد أبى،
لأنه كان يرجو أن يكون فطره على شربة من نهر الكوثرززز
في قوارير
من فضة...
بأيدي الحور
العين...
ـــــــ
المصدر: صور من حياة التابعين تأليف الدكتور عبدالرحمن رأفت باشا.
المصدر: صور من حياة التابعين تأليف الدكتور عبدالرحمن رأفت باشا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق