الجمعة، 21 فبراير 2014

عامرُ بن عبد الله التميميّ



عامرُ بن عبد الله التميميّ
(انتهى الزهدُ إلى ثمانية في مقدمتهم عامر بن عبدالله التميمي) .. علقمةُ بن مرثِد.
نحن الآن في السنة الرابعة عشرة للهجرة.
وهاهم أولاء الهداة البناة من كرام الصحابة وكبار التابعين؛ يختطُّون مدينة (البصرة) بأمر من خليفة المسلمين عمر ن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فلقد عزموا على أن يجعلوا من المدينة الجديدة معسكراً لجيوش المسلمين الغازية في بلاد (فارس)...
وقاعدة للدعوة إلى الله عز وجل..
ومنارة لإعلاء كلمته في الأرض...
وهاهي ذي جموع المسلمين؛ ترحل إلى المدينة الفتية من كل مكان في جزيرة العرب:
من نجد...من الحجاز...من اليمن...
ليكونوا على ثغر من ثغور المسلمين.
وكان في جملة المهاجرين إليها من (نجد) فتى من بني (تميم) يدعى عامر بن عبدالله التميمي العنبري.
كان عامر بن عبدالله يومئذ فتى في بواكير الصبا، غض الإهاب ريان الشباب، وضيء الوجه، زكي النفس، تقي القلب..
وكانت البصرة على حداثتها من أغنى بلاد المسلمين غنى، وأوفرها ثروة؛ لما كان يتدفق عليها من غنائم الحرب، وينصب فيها من الذهب النضار..
لكن الفتى التميمي عامر بن عبدالله لم يكن له أرَبٌ في ذلك كله..فلقد كان زهاداً بما في أيدي الناس، رغاباً بما عند الله..معرضا عن الدنيا وزينتها، مقبلا على الله ومرضاته..
وكان رجل البصرة ومقدّمَهَا يومئذ الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ونضر في الجنة وجهه.
فهو والي المدينة الزاهرة..
وهو قائد جيوش المسلمين المنطلقة منها في كل اتجاه..
وهو إمام أهلها، ومعلمهم، ومرشدهم إلى الله عز وجل..
لزم عامر بن عبدالله أبا موسى الأشعري في سلمه وحربه، وصحبه في حلّه وترحاله..
فأخذ عنه كتاب الله رطبا طريا كما نزل على فؤاد محمد..
وروى عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا موصولا بالنبي الكريم..
وتفقه على يديه في دين الله عز وجل.. فلما اكتمل له ما أراد من العلم؛ جعل حياته أقساماً ثلاثةً:
فشطرٌ في حلقات الذكر؛ يقرئ فيه الناس القرآن في مسجد البصرة..
وشطر في خلوات العبادة؛ ينتصب فيه قائماً بين يدي الله حتى تكل قدماه..
وشطر في ساحات الجهاد؛ يسل فيه سيفه غازيا في سبيل الله..
ولم يترك في حياته موضحا لشيء غير ذلك أبداً ...حتى دعي بعابد البصرة وزاهدها..
وكان من أخبار عامر بن عبدالله ما حدّث به أحد أبناء البصرة قال:
سافرت في قافلة فيها عامر بن عبدالله، فلما أقبل علينا الليل؛ نزلنا بغيضةٍ –الغيضة مجتمع الشجر في مغيض الماء- فجمع عامرٌ متاعه، وربط فرسه بشجرة، وطول له زمامه، وجمع له من حشائش الأرض ما يشبعه وطرحه أمامه..ثم دخل الغيضة وأوغل فيها فقلت في نفسي:
والله لأتبعنه، ولأنظرن ما يصنع في أعماق الغيضة في هذه الليلة.
فمضى حتى انتهى إلى رابية ملتفة الشجر، مستورة عن الأعين..
فاستقبل القبلة، وانتصب قائماً يصلي..
فما رأيت أحسن من صلاته ولا أكمل ولا أخشع.
فلما صلى ما شاء الله أن يصلي، طفق يدعو الله ويناجيه، فكان مما قاله:
(إلهي لقد خلقتني بأمرك، وأقمتني في بلايا هذه الدنيا بمشيئتك، ثم قلت لي: استمسك..فكيف استمسك إن لم تمسكني بلطفك يا قوي يا متين؟
إلهي إنك تعلم أنه لو كانت لي في هذه الدنيا بما فيها، ثم طُلبت مني مرضاة لك؛ لوهبتها لطالبها..فهب لي نفسي يا أرحم الراحمين..
إلهي إني أحببتك حبا سهل علي كل مصيبة، ورضاني بكل قضاء..فما أبالي مع حبي لك ما أصبحت عليه، وما أمسيت فيه..)
قال الرجل البصري:
ثم إنه غلبني النعاس، فأسلمت جفني إلى الكرى .. ثم مازلت أنام وأستيقظ، وعامر منتصب في موقفه، ماض في صلاته ومناجاته، حتى تنفس الصبح.
فلما بدا له الفجر أدى المكتوبة، ثم أقبل يدعو فقال:
اللهم ها قد أصبح الصبح، طفق الناس يغدون ويروحون؛ يبتغون من فضلك .. وإن لكل منهم حاجة .. وإن حاجة عامر عندك أن تغفر له .. الله فاقض حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين..
اللهم إني سألتك ثلاثاً؛ فأعطيتني اثنتين، ومنعتني واحدة .. اللهم فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد ..
ثم نهض من مجلسه، فوقع بصره علي فعلم بمكاني منه في تلك الليلة، فجرع لذلك أشد الجزع، وقال لي في أسى:
أراك كنت ترقبني الليلة يا أخا البصرة؟!
فقلت: نعم.
فقال: استر ما رأيت مني ستر الله عليك.
فقلت: والله لتحدثني بهذه الثلاث التي سألتها ربك، أو لأخبرن الناس بما رأيته منك.
فقال: ويحك لا  تفعل.
فقلت: هو ما أقول لك..
فلما رأى إصراري قال: أحدثك على أن تعطيني عهد الله وميثاقه ألا تخبر بذلك أحداً.
فقلت: لك علي عهد الله وميثاقه ألا أفشي لك سرا ما دمت حياً.
فقال: لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء، فسألت ربي أن ينزع من قلبي حبهن، فاستجاب لي حتى صرت ما أبالي امرأة رأيت أم جداراً..
فقلت: هذه واحدة؛ فما الثانية؟
فقال: الثانية أني سألت ربي ألا أخاف أحداً غيره، فاستجاب لي حتى أني والله ما أرهب شيئاً في الأرض ولا في السماء سواه.
قلت: فما الثالثة؟
فقال: سألت ربي أن يذهب عني النوم حتى أعبده بالليل والنهار كما أريد فمنعني هذه الثالثة..
فلما سمعت منه ذلك قلت له: رفقاً بنفسك، فإنك تقضي ليلك قائماً، وتقطع نهارك صائماً .. وإن الجنة تدرك بأقل مما تصنع .. وإن النار تتقى بأقل مما تعاني.
فقال: إني لأخشى أن أندم حيث لا ينفع الندم .. والله لأجتهدن في العبادة ما وجدت إلى الاجتهاد سبيلا .. فإن نجوت؛ فبرحمة الله .. وإن دخلت النار؛ فبتقصيري.
غير أن عامر بن عبدالله لم يكن راهبا من رهبان الليل فحسب، وإنما كان فارسا من فرسان النهار ايضاً..
فما أذن مؤن للجهاد في سبيل الله إلا كان في طليعة من يجيب نداءه.
وكان إذا نَهَدَ –أسرع- لغزوة من الغزوات مع المجاهدين، وقف يتوسم الناس ليختار رفاقه.
فإذا وقع على رفقة توافقه؛ قال لهم: يا هؤلاء، إني أريد أن أصحبكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خلال..
فيقولون: ما هن؟
فيقول: أولاهن أن أكون لكم خادما؛ فلا ينازعني أحد منكم في الخدمة أبداً.
والثانية أن أكون لكم مؤذناً؛ فلا ينازعني أحد منكم النداء للصلاة.
والثالثة أن أنفق عليكم بقدر طاقتي..
فإن قالوا: نعم، انضم إليهم.
وإذا نازعه أحد منهم شيئا من ذلك رحل عنهم إلى غيرهم.
ولقد كان عامر من أولئك المجاهدين الذين يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع .. فهو يغشى الوغى كما لا يغشاها أحد سواه .. وكنه تعف عند المغنم كما لا يعف عنه أحد غيره.
فهذا سعد بن أبي وقاص ينزل بعد القادسية في إيوان كسرى ويأمر عمرو بن مقرّن بأن يجمع الغنائم ويحصيها؛ ليرسل خمسها إلى بيت مال المسلمين، ويقسم باقيها على المجاهدين .. فاجتمع بين يديه من الأموال والأعلاق والنفائس ما يفوق الوصف، ويعز على الحصر..
فهنا سلال كبيرة مختمة بالرصاص مملوءة بآنية الذهب والفضة كان يأكل بها ملوك فارس..
وهناك صناديق من نفيس الخشب كدست فيها ثياب كسرى وأوشحته ودروعه المحلاة بالجوهر والدر ..
وهذه أسفاط –السفط وعاء يوضع فيه الطيب وما أشبه من زينة النساء وحليتهن- مملوءة بنفائس الحلي وروائع المقتنيات .. وتلك أغماد فيها سيوف ملوك الفرس ملكا بعد ملك .. وسيوف الملوك والقواد الذين خضعوا للفرس خلال التاريخ ..
وفيما كان العمال يحصون هذه الغنائم على مرأى من المسلمين ومسمع .. أقبل على القوم رجل أشعث أغبر، ومعه حُق –الحُق وعاء الطيب ونحوه من النفائس- كبير الحجم ثقيل الوزن؛ حمله بيديه كلتيهما ..
فتأملوه؛ فإذا هو حق لم تقع عيونهم على مثله قط، ولا وجدوا فيما جمعوه شيئا يعدله أو يقاربه ..فنظروا في داخله؛ فإذا هو قد ملئ بروائع الدر والجوهر ..
فقالوا للرجل: أين أصبت هذا الكنز الثمين؟!
فقال: غنمته في معركة كذا .. في مكان كذا ..
فقالوا: وهل أخذت منه شيئاً؟
فقال: هداكم الله .. والله إن هذا الحُقّ، وجميع ما ملكته ملوك فارس لا يعدل عندي قلامة ظفر .. ولولا حَق بيت مال المسلمين فيه مارفعته من أرضه .. ولا أتيتكم به.
فقالوا: من أنت أكرمك الله؟!
فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا أخبر غيركم ليقرّظوني .. ولكني أحمد الله تعالى وأرجو ثوابه.
ثم تركهم، ومضى .. فأمروا رجلا منهم أن يتبَعه، وأن يأتيهم بخبره.
فما زال الرجل يمضي وراءه –وهو لا يعلم به– حتى بلغ أصحابه، فلما سألهم عنه قالوا: ألا تعرفه؟! إنه زاهد البصرة .. عامر بن عبد الله التميمي.
لكن حياة عامر بن عبدالله –على الرغم مما عرَفت من أمره- لم تخل من المنغصات، ولم تسلم من أذى الناس. فلقد تعرض لما يلقاه الصادعون بكلمة الحق، المنكرون للمنكر، العاملون على إزالته.
وكان السبب المباشر فيما لحق به من أذى .. أنه أبصر رجلا من أعوان صاحب شرط البصرة وقد أمسك بخناق رجل من أهل الذمة، وجعل يجره جرّاً .. والذمي يستغيث الناس ويقول: أجيروني أجاركم الله .. أجيروا ذمة نبيكم يا معشر المسلمين ..
فأقبل عامرٌ عليه وقال: هل أديت جزيتك؟
فقال: نعم، أديتها.
فالتفت إلى الرجل الممسك بخناقه وقال: ما تريد منه؟!
فقال: أريد أن يذهب معي ليكسَح -لينظف- حديقة صاحب الشّرَط..
فقال للذمي: أتطيب نفسك بهذا العمل؟
فقال: كلا..
فذلك يهد قواي، ويشغلني عن كسب قوت عيالي..
فالتفت عامرٌ إلى الرجل وقال: دعه..
فقال: لا أدعه..
فما كان من عامر إلا أن القى رداءه على الذمي وقال: والله، لا تخفر ذمة محمد وأنا حي..
ثم تجمع الناس، وأعانوا عامراً على الرجل، وخلصوا الذمي بالقوة..
فما كان من أعوان صاحب الشرط إلا أن اتهموا عامراً بنبذ الطاعة..
ورموه بالخروج على السنة والجماعة...
وقالوا: إنه امرؤ لا يتزوج النساء..
ولا يأكل لحم الحيوانات وألبانها..
ويتعالى على غشيان مجالس الولاة..
وفعوا أمره إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أمر الخليفة واليه على البصرة بأن يدعو عامر بن عبد الله إلى مجلسه، وأن يسأله عما نسب إليه .. وأن يرفع له خبره..
فاستدعى والي البصرة عامراً وقال: إن أمير المؤمنين –أطال الله بقاءه- أمرني أن أسألك عن أمور نسبت إليك.
فقال: سل عما أمر به أمير المؤمنين.
فقال: ما لك تعزف عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأبى أن تتزوج؟!
فقال: ما تركت الزواج عزوفاً عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام .. فأنا أشهد أنه لا رهبانية في الإسلام .. وإنما أنا امرؤ رأى أن له نفساً واحدة؛ فجعلها لله عز وجل، وخشي أن تغلبه الزوجة عليها.
فقال: مالك لا تأكل اللحم؟!
فقال: بل آكله إذا اشتهيته ووجدته .. أما إذا لم أشتهه، أو اشتهيته ولم أجده فإني لا آكله.
فقال: مالك لا تأكل الجبن؟!
فقال: إنا بمنطقة فيها مجوس يصنعون الجبن .. وهم قوم لا يفرقون بين الميتة والمذبوحة .. وإني لأخشى أن تكون المنفحة التي صنع بها الجبن من شاة غير مذكاة، فما شهد شاهدان من المسلمين على أنه جبن صنع بمنفحة شاة مذبوحة أكلتُه.
فقال: وما يمنعك من أن تأتي الولاة، وتشهد مجالسهم؟!
فقال: إن في أبوابكم كثيراً من طلاب الحاجات؛ فادعوهم إليكم .. واقضوا حوائجهم لديكم .. واتركوا من لا حاجة له عندكم.
رفعت أقوال عامر بن عبدالله إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان؛ فلم يجد فيها نبذا للطاعة .. أو خروجاً على السنة والجماعة.
غير أن ذلك لم يطفئ نار الشر .. وكثر القيل والقال حول عامر بن عبدالله .. وكادت تكون فتنة بين أنصار الرجل وخصومه.
فأمر عثمان رضي الله عنه بتسييره إلى بلاد الشام، واتخاذها دار إقامة له .. وأوصى واليه على الشام معاوية بن أبي سفيان أن يحسن استقباله، وأن يرعى حرمته.
وفي اليوم الذي عزم فيه عامر بن عبدالله على الرحيل عن البصرة خرج خلق كثير من إخوانه وتلاميذه؛ لوداعه.
وشيعوه حتى بلغوا معه ظاهر المربد .. وهناك قال لهم: إن داع فأمنوا على دعائي..فاشرأبّت إليه أعناق الناس، وسكنت حركتهم، وتعلقت به عيونهم.
فرفع يديه وقال: اللهم من وشى بي وكذب علي، وكان سبباً في إخراجي من بلدي، والتفريق بيني وبين صحبي .. اللهم إني صفحت عنه فاصفح عنه .. وهبه العافية في دينه ودنياه .. وتغمدني وإياه وسائر المسلمين برحمتك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
ثم وجه مطيته نحو ديار الشام، ومضى لسبيله.
قضى عامر بن عبد الله بقية حياته في بلاد الشام، واختار بيت المقدس داراً لإقامته .. ونال من برّ أمير الشام معاوية بن أبي سفيان وإجلاله وتكريمه ما هو جدير به.
فلما مرض مرَض الموت دخل عليه أصحابه؛ فوجدوه يبكي. فقالوا: ما يبكيك، وكقد كنت .. وكنت؟!
فقال: والله ما أبكي حرصاً على الدنيا .. أو جزعاً من الموت. وإنما أبكي لطول السفر وقلة الزاد. ولقد أمسيت بين صعود وهبوط إما إلى الجنة وإما إلى النار .. فلا أدري إلى أيهما أصير ...
ثم لفظ أنفاسه، ولسانه رطب بذكر الله...
وهناك ..
هناك .. في أولى القبلتين ..
وثالث الحرمين ..
مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ثوى عامر بن عبدالله التميمي ...
نور الله لعامر في قبره ..
ونضّر في جنات الخلد وجهه...

ـــــــ
المصدر: صور من حياة التابعين تأليف الدكتور عبدالرحمن رأفت باشا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق