السبت، 22 فبراير 2014

دقـةٌ بدقـة



دقـةٌ بدقـة
كان تاجرا كبيرا، وكانت تجارته بين العراق وسورية يبيع الحبوب في سورية، ويستورد منها الصابون والأقمشة.
وكان رجلا مستقيما في خلقه، كثير التدين، يزكي ماله ويغدق على الفقراء مما أفاء الله عليه من خير.
وكان يقضي حاجات الناس، لا يكاد يرد سائلاً، وكان يقول: زكاة المال من المال، وزكاة الجاه قضاء الحاجات.
وكان يعود مرضى محلته، ويتفقدهم كل يوم تقريباً، وكان يصلي المغرب والعشاء في مسجد صغير قرب داره، فلا يتخلف عن الصلاة أحد من جيرانه إلا ويسأل عنه، فإذا كان مريضاً عاده، وإذا كان محتاجاً إلى المال أعطاه من ماله، وإذا كان مسافراً خلفه في عياله.
وكان له ولد وابنة واحدة، بلغا عمر الشباب.
وفي يوم من الأيام، سأل ولده الوحيد أن يسافر إلى سورية بتجارته قائلاً له: لقد كبرت يا ولدي، فلا أقوى على السفر، وقد أصبحت رجلاً والحمد لله، فسافر على بركة الله مع قافلة الحبوب إلى حلب، فبع ما معك، واشتر بها صابوناً وقماشاً ثم عد إلينا، أوصيك بتقوى الله، وأطلب منك أن تحافظ على شرف أختك.
وكان ذلك قبل الحرب العالمية الأولى، يوم لم يكن حينئذ قطارات ولا سيارات...
وسافر الشاب بتجارة أبيه من مرحلة إلى مرحلة يسهر على إدراة القافلة ويحرص على حماية ماله ويقوم على شؤون رجاله.
وفي حلب الشهباء، باع حبوبه، واشترى بثمنها من صابونها المتميز، وقماشها الفاخر، ثم تجهز للعودة أدراجه إلى الموصل الحدباء.
وفي يوم من الأيام فبيل عودته من حلب، رأى شابة جميلة تخطر بغلالة من اللاذ –ثياب حرير حمر تنسج بالصين- في طريق مقفر بعد غروب الشمس، فراودته نفسه الأمارة بالسوء على تقبيلها، وسرعان ما اختطف منها قبلة ثم هرب على وجهه، وهربت الفتاة. وما كاد يستقر به المقام في مستقره إلا وأخذ يؤنب نفسه، وندم على فعلته، ولات ساعة مندم.
وكتم أمره عن أصحابه، ولم يبح بسره لأحد، وبعد أيام عاد إلى بلده، وكان والده الشيخ في غرفته يطل منها على حوش الدار، حين طرق الباب السقاء، فهرعت ابنته إلى الباب تفتحه له، وحمل السقاء قربته وصبها في الجب، وأخت الفتى تنتظره على الباب لتغلقه بعد مغادة السقاء الدار. وعاد السقاء بقربته الفارغة، فلما مر بالفتاة قبّلها، ثم هرب لا يلوي على شيء.
ولمح أبوها من نافذة غرفته ما حدث، فردد من صميم قلبه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولم يقل الأب شيئاً، ولم تقل الفتاة شيئاً..
وعاد السقاء في اليوم الثاني إلى دار الرجل كالمعتاد، وكان مطأطئ الرأس خجلاً، وفتحت له الفتاة الباب، ولكنه لم يعد إلى فعلته مرة أخرى.
لقد كان هذا السقاء يزود الدرا بالماء من سنين طويلة، كما كان يزود دور المحلة كلها بالماء، ولم يكن في يوم من الأيام موضع ريبة، ولم يحدث له أن ينظر إلى محارم الناس نظرة سوء، وكان في العقد الخامس من عمره، وقد ولى عنه عهد الشباب، وما قد يصحبه من تهور وطيش وغرور...
وقدم الفتى الموصل، موفور الصحة، وافر المال.
ولم يفرح والده بالصحة ولا بالمال، ولم يسأل ولده عن تجارته ولا عن سفره، ولا عن أصحابه التجار في حلب.
لقد سأل ولده أول ما سأله: ماذا فعلت منذ غادرت الموصل إلى أن عدت إليها؟
وابتدأ الفتى يسرد قصة تجارته، فقاطعه أبوه متسائلاً: هل قبلت فتاة، ومتى، وأين؟ فأسقط في يد الشاب، ثم أنكر..
واحمر وجه الفتى وتلعثم، وأطرق برأسه إلى الأرض في صمت مطبق كأنه صخرة من صخور الجبال لا يتحرك ولا يريم.
ساد الصمت مدة قصيرة من عمر الزمن، ولكنه كان كالدهر طولاً وعرضاً.
وأخيراً قال أبوه: لقد أوصيتك أن تصون عرض أختك في سفرك، ولكنك لم تفعل.
وقصّ عليه قصة أخته، وكيف قبلها السقاء، فلابد أن هذه القبلة بتلك القبلة وفاءً لدين عليك.
وانهار الفتى، واعترف بالحقيقة.
وقال له أبوه مشفقاً عليه وعلى أخته وعلى نفسه: إن لأعلم أنني لم أكشف ذيلي في حرام، وكنت أصون عرضي حين كنت أصون أعراض الناس، ولا أذكر أن لي خيانة في عرض أو سقطة من فاحشة، أرجو ألا أكون مديناً لله بشيء من ذلك، وحين قبّل السقاء أختك تيقنت أنك قبلت فتاة ما.
فأدت أختك عنك دينك. لقد كانت دقة بدقة، وإن زدت زاد السقا!!.
وكانت يمامة تتغنى فوق سطح الدار وكان مما رددته:
من خاف على عقبه وعقب عقبه، فليتق الله..
ومن تعقب عورات الناس، تعقب الله عورته..
ومن تعقب الله عورته، فضحه ولو كان في جوف رحم..
ومن كان يحرص على عرضه، فليحرص على أعراض الناس..
ومن أراد أن يهتك عرضه، فليهتك أعراض الناس..
لذة ساعة، غصة إلى قيام الساعة..
وكل دين لابد له من وقاء..
ودين الأعراض وفاؤه بالأعراض..
والمرء يهتك عرضه، حين يهتك أعراض الناس..
والذين يفرحون باللذة الحرام قليلاً، سيبكون على ما جنت أيديهم كثيراً بحق أعراضهم..
والذين يخونون حرمات الناس، يخونون حرماتهم أولاً..
ولكنهم غافلون عن أمرهم، لأنهم آخر من يعلم..
ولو علموا الحق، لتواروا عن البشر خجلاً وعاراً..
(إن ربك لبالمرصاد)..الفجر:14
وأنه أعدل العادلين..
(فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)..الروم:9

 ـــــــ
المصدر: عدالة السماء تأليف اللواء الركن/ محمود شيت خطّاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق