الاثنين، 17 مارس 2014

في بيت المقدس (1)

في بيت المقدس (1)
كانت مارييت تدور في البيت، ما تستطيع أن تستقر، من جزعها على زوجها وإشفاقها أن يصيبه مكروه، تضم ولدها الرضيع إلى صدرها، تناجيه وتناغيه، ثم يدركها اليأس، ويخيل إليها أنه قد غدا يتيماً لا أب له، فتساقط الدموع من عينيها على وجه الطفل فيفيق مذكوراً ويبكي، فتمتزج دمعة الحب، بدمعة الطفولة...
وكان زوجها قد خرج من الغداة لرد "الأعداء" المسلمين عن بيت المقدس، ومالت الشمس ولم يعد، ولم تعرف ماذا حل به...
وكانت مارييت فتاة باسلة، ثابتة الجنان، لم تكن تعرف الخوف ولا تخلع الحوادث فؤادها، ولكن وقعة حطين لم تدع لشجاع من الإفرنج قلباً، ولم تترك لفارس فيهم مأملاً في نصر، فقد طحنت جيوشهم طحناً، وعركتها عرك الرحى، وزعزعت قلوب الكماة عن مواضعها. فكيف بقلوب الغيد الحسان؟
وكان زوج مارييت فارس الحلبة، وبطل القوم، وكان قد رأى البنات من الإفرنج والألمان والإنكليز وكل أمة في أوربة، يملأن جوانب القدس، فلم يرَ فيهن من هي أفتن فتنة وأبهى جمالاً من مارييت، فهام بها وهامت به، وتزوجها فكانا خير زوجين، وكانت حياتهما النعيم كله، ودارهما كأنها لهما جنة عدن...ولكن حبه لها لم يشغله عن حبه لوطنه، وتمسكه بصليبيته، وحرصه على أن يبقى أبداً فارس النصرانية المعلم، وبطلها، فكان كلما سمع نأمة طار إليها، وكلما دعا داعي القتال كان أول الملبين...
وفتح الباب، فخفق قلب مارييت وتلاحقت أنفاسها، ولم تدرِ أهوَ البشير أم هو الناعي، وتلفتت فإذا هي بزوجها يدخل عليها سالماً، يمد لها ذراعيه فتلقي بنفسها بينهما...ويحدثها حديث النصر: لقد رد "يسوع" الأعداء، وفتّ في أعضادهم فانطلقوا هاربين، قبل أن نباشر حرباً، أو نشرع في قتال، لقد استقر أيتها الحبيبة ملك المسيح في بيت المقدس إلى الأبد، ولو أبصرتهم يا مارييت، وقد ذهب الفزع بألبابهم لما رأوا أسوار المدينة، تطل من فوقها أبطال النصرانية، وفرسان الصليب، فهدوا خيامهم وولوا الأدبار لا يلوون على شيء لا يريدون إلا النجاة...لما صدقت أن هؤلاء هم الذين فعلوا تلك الفعلة في حطين. لقد فروا كالنعاج الشاردة...فيا ليت أبطال المقدس كانوا في حطين، ليروهم يومئذ ما القتال!
ألا تقدس الصليب، وتبارك اسم الناصري، إن أورشليم لنا إلى الأبد!!
ومشت معه إلى الكنيسة الكبرى، لتحضر الاحتفال بالنصر، وكان يحدثها في الطريق عن هؤلاء الوحوش الكافرين، ويصف لها فظاعة ديانتهم، وقسوة رجالهم، وكيف يأكلون لحوم أعدائهم، ويشربون دماءهم، ويصور لها ملكهم (صلاح الدين) كما وصفه له الكهنة ورجال الكنيسة. فترتجف أضلاعها خوفاً وفزعاً من هذه الصورة المرعبة، وتضم ولدها إليها، وتصلب، وتستجير بالقديسين جميعاً، وبيسوع وبالعذراء، أن لا يجعلوا له سبيلاً إليها...وأن لا يروها وجهه المخيف...
وينقضي الاحتفال ويرجعون من الكنيسة، وهي تحس أن الدنيا قد ألقت إليهم مقاليد الأماني، وأن الدهر قد حكمهم فيه، ونزل على حكمهم، وتستلقي على فراشها، وهي تداعب الآمال وتناجيها، حتى إذا بلغ بها التأميل أن ترى هذه البلاد كلها قد عادت للمسيح وأتباعه، ولم تبق في جنباتها منارة مسجد، ولم يعد يتردد في جوها أذان، وترى زوجها قد علا في المناصب حتى صار القائد المفرد؛ أغمضت عينيها على هذه الصورة الحلوة وأخذتها معها في أحلامها...ونامت...ولكنها لم تجد إلا حلماً مزعجاً: لقد أحست كأن المدينة تتقلقل وتميد، وكأن حصونها تدك دكاً، وتخر حجارتها، وتتهدم كما يتهدم عش عصفور ضعيف بضربة من جناح نسر كاسر، وخالطت سمعها أصوات العويل والبكاء تتخللها صرخات الرجال؛ فعلمت أنه ليس بحلم ولكنها الحقيقة، فوثبت تحمل ابنها، ونظرت إلى سرير زوجها فلم تلقه في مكانه...فخرجت تسأل ما الخبر، فخبروها أن صلاح الدين، قد دار حول البلد حتى حط على جبل الزيتون، ثم صدم المدينة صدمة زلزلتها وهزتها هزاً، وكادت تقتلعها من أساسها، كما تقتلع الشجرة من الأرض الرخوة، ورماها بالمنجنيقات والعرادات، وقذفها بالنيران المشتعلة، وهجم جنوده على الأسوار كالسيل المنحط، بل كأبالسة الجحيم، لا تحرقهم نيراننا، ولا يقطع فيهم حديدنا، كأن المردة والشياطين كلها تقاتل معهم...

وكانت مارييت واثقة من قوة الدفاع، فالقدس بلد النصرانية لبثت في أيدي أهلها مائة سنة لا سنة ولا سنتين، وفي القدس ستون ألفاً هم خيرة أجناد الصليب، يقودهم بليان ويصرفهم البطريرك الأكبر، ولكن هذه المفاجأة روعتها، وأدخلت الشك إلى قلبها...
وطفقت الأخبار تصل إليها متعاقبة تترى وكل خبر شر عليها من الذي قبله وكلما مرت دقيقة سمعت نبأ جديداً عن شدة الهجوم ومضائه، وعن تحطم أدوات الدفاع، حتى جاءها الخبر بأن الرايات البيض، قد رفعت على الأسوار، وأنها قد عقدت الهدنة، على أن يخرج من شاء من المدينة في مدة أربعين يوماً، ومن أراد البقاء بقي في حكم صلاح الدين، وأن تفتح له المدينة أبوابها، وأن يدفع الرجل الذي يريد الخروج عشرة دنانير والمرأة خمسة والولد دينارين.
وتركت مارييت القوم في رجتهم، وخرجت تفتش عن زوجها الحبيب، ومشت في الظلام تدور حول الأسوار، تنظر إلى الأبواب المفتحة، والجنود الظافرين يدخلون بالمشاعل والطبول، فتشد يدها على ولدها وتمضي متباعدة، حتى تبلغ ساحة القتال، فإذا هي تطأ على أعلام الصليبيين ممزقة محرقة، مختلطة بجثث الأجناد، مقطعة الأوصال، فامتلأت نفسها رهبة وخوفاً، وهمت بالعودة ولكنها غالبت النفس ومشت، فقد كانت تفتش عن زوجها، ولا تستطيع أن ترجع حتى تلقاه أو تعرف خبره، وكان حولها رجال ونساء كثيرون يبحثون كما تبحث عن قريب أو صديق، وتمثلت ذلك الأمل الضخم أمل (الوطن القومي) الصليبي، فألفته قد مات هو الآخر، وألقيت جثته...ورأت هذه الأرض قد عادت للقوم الكافرين بيسوع وأمه...وأحزنها ذلك كما أحزنها فقد زوجها؛ وتضاعفت به مصيبتها وحاولت أن تتعرف وجوه القتلى، من أحبابها وعشيرتها، فأخفقت وعجزت ولم تبصر شيئاً من الظلام، ومما أصابهم من التبديل والتغيير. وتمثلت لها حياتها كلها، فإذا هي قد ذهبت، وجاءت في مكانها حياة جديدة؛ حياة رعب وفزع وشقاء، لا تعرف عنها شيئاً، ولا تدري ولا يدري أحد من قومها كيف يكون مصيره في ظل الحكم الجديد، وذكرت ما قاله لها زوجها عن فظاعة هؤلاء الفاتحين، فأحست عند ذكر زوجها كأن قلبها قد انتزع من صدرها، وطار في أثره، وفكرت فيه: أي أرض تقله؟ وأي سماء تظله؟ وهل هو قتيل قد تمزق جسمه الجميل، وانتثرت ثناياه الرطاب، و...ولم تستطع المضي في هذه الصورة، فأغمضت عينيها، وألقت عليهما غشاء من الدمع، وأحست كأن فؤادها يسيل حزناً عليه، فانكبت على الولد تقبله بشدة، وشغف، كأنها تصب في هذه القبل أحزانها وعواطفها، حتى أجعت الطفل فصرخ وبكى...ورغبت في الفرار من هذه المشاهد كلها، ولم تقدر أن تتصور كيف يتبدل كل شيء بهذه السرعة، وتتوهم حيناً أنها في حلم، وأنها ستستيقظ فترى كل شيء قد عاد كما كان، ولكن الحقيقة سرعان ما تفجعها بهذا الوهم، وتبدده أمام عينيها...
وكان أشد ما روعها، وحز في فؤادها، انصراف الناس عنها، وكف أيديهم عن مساعدتها؛ فقد شغلت المصيبة الداهمة كل واحد بنفسه، وكأنه يوم المحشر كل يقول فيه: أنا...
وكرت راجعة وهي تعرض في ذهنها فصول هذه الرواية التي مثلت الليلة، فابتدأت بالظفر والمجد، والحب والوصال. ثم انتهت بالخيبة المرة، والهزيمة الماحقة، والفراق الطويل، ولم تفهم كيف يمكن أن يهوي في لحظة الصرح الذي أقيم في مائة سنة، وكيف يهدم رجل واحد ما تعاون على إنشائه أهل أوربة جميعاً، أيكون أمير مسلم واحد معادلاً في الميزان لملوك النصرانية كلهم وأمرائهم؟ إذن كيف لو تحالف المسلمون كلهم؟ كيف لو كانت هذه الحروب في أيام الخلافة، إذ كانت مملكتهم مملكة واحدة تمتد من الصين إلى قلب فرنسا؟
وجعلت تسأل كل من تلقاه عن زوجها، فلا يقف لها أحد ولا يرد عليها، وإذا لقيت كريماً منهم رقيق القلب فسألته فعطف عليها بجواب، لم يكن جوابه غير لا أدري!.
وظهر القمر نحيلاً هزيلاً من بين فرج الغمام، فألقى على الساحة ضياءً شاحباً حزيناً جعل الدنيا كأنها وجه مريض محتضر، فرأت قطع اللحم البشري مخلوطة بالوحل، تبرز من خلالها الدروع المذهبة، وتبدو من بينها قطع الرماح المكسرة والسيوف، فأشجاها التفكير في هذه الجيف المنتنة، التي كانت في الصباح أبطالاً كراماً تخطر على أرض الموعد، وكانت حصن الصليبية وسياجها، وعادة إلى البحث عن زوجها والتحديق في الوجوه، فمر بها شيخ كان يحدب عليها، ويحب زوجها، فأدركته الشفقة عليها، فأخذ بيدها فاستخرجها من الساحة، وكان الخطب قد حطم إرادتها وتركها كالتي تمشي في نومها، فانقادت إليه طيعة وسارت معه، وسألته هامسة كأنها تخاطب نفسها.
-       يا أبتاه هل رأيت زوجي؟
-       فلم يحب أن  ينبئها بما تكره فلوى الحديث وشغلها بغير ما تسأل عنه، فقالت:
-       وما تظن أنهم يصنعون بنا يا أبتاه؟ هل يخطفون ولدي ليأكلوا لحمه أمام عيني؟
-       قال: ومن خبرك بهذه الأكاذيب، إن المسلمين قوم كرام، أهل وفاء ونبل، وإن ملكهم صلاح الدين خير الملوك قاطبة...
ومضى يحدثها عما عرفه من صفة المسلمين، وهي فاتحة فمها دهشة لا تكاد تفهم ما يقول ولا تصدقه. فعاد يقول:
-       ولو أنهم ذبحونا لما كانوا معتدين، بل كانوا منتصفين منا، فإنا لما دخلنا القدس منذ مائة سنة، قتلناهم في البيوت والشوارع والمساجد، وحيثما وجدناهم حتى صاروا يلقون بأنفسهم من فوق الأسوار لينجوا منا، وحتى بلغ عدد من قتلنا منهم سبعين ألفاً ولم يتحرك قلب منا بشفقة، ولا لسان بإنكار...
وأصبح الصباح وهي لا تزال تفتش وتبحث، والولد على يدها ينادي: بابا، فيذكرها به، وما كانت ناسية.
وإن كلمة (بابا) لأجمل كلمة في الدنيا، وفاتحة اللغات وأمها. فهي أول لفظ بشري يجري به لسان الوليد، وهي كلمة الإنسانية، تختلف اللغات، وتتحد فيها. وهي كلمة الطهر ينطق بها الطفل قبل أن يعرف الشر ويدري ما المكر.

وهي أحلى من كلمة (حبيبي) لأن من الحب ما يمدح وما يذم، أما الأبوة فخير كلها، والحب رابطة يصنعها الإنسان، أما الأبوة فمن صنع يد الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق