الاثنين، 17 مارس 2014

في بيت المقدس (2)


في بيت المقدس (2)
ولكن مارييت لم تكن ترى في هذا الصباح إلا ناراً تحرق كبدها، وشفرة تمزقها، وضاق بها أمرها، فهرعت إلى جارات لها واجتمعن يترقبن ما يكون من الأهوال، فإذا القدس ترتج بصرخة واحدة، اجتمعت عليها حلوق المسلمين والنصارى أولئك ينادون: الله أكبر، وهؤلاء يعولون ويبكون، فنظرن فإذا أحد الجنود الفاتحين علا قبة الصخرة، فأنزل الصليب الذهبي، الذي لبث فوقها قرابة مائة سنة، وحسبوه سيلبث إلى يوم القيامة...
وجاءتهن الأخبار يما يصنع المسلمون في المدينة، فجعلوا يعجبون، ولا يصدقون، أن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، وأن من شاء الخروج دفع ما اتفق عليه وحمل معه ما شاء وخرج. وأن النصارى يبيعون ما فضل عنهم من أمتعتهم في الأسواق فيشتريها منهم المسلمون بأثمانها. وأنهم يروجون ويجيئون آمنين مطمئنين، لم يروا إلا الخير والمروءة واللطف. وأن المسلمين قوم أهل حضارة وتمدن ليسوا وحوشاً ولا آكلي لحوم البشر. وروي لهن ما صنعوا في الحرم، فقد نزعوا منه كل ما أحدث النصارى، وردوه إلى حاله الأولى وجاؤوا بالمنبر الذي صنعه نور الدين الشهيد ليقام فيه، فأقاموه في الحرم، وخطب عليه خطيبهم يوم الإسراء...
وجاءهن شاهد عيان يصف لهن ما رأى وما سمع في المسجد، قال: ودخلت فلم يمنعني أحد، ولم يسألني من أنا، فاختلطت بالمسلمين، فإذا هم جميعاً يجلسون على الأرض لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن واحد منهم، قد خشعت جوارحهم، وسكنت حركاتهم، وخضعوا لله، فعجبت من هؤلاء الذين كانوا جنّ المعارك، وشياطين يوم القتال، كيف استحالوا هناك رهباناً خشعاً، ورأيت الخطيب قد صعد المنبر فخطب خطبة، لو أنها ألقيت على رمال البيد، لتحركت وانقلبت فرساناً، ومضت حتى تفتح الأرض، ولو سمعتها الصخور الصم، لانبثقت فيها الحياة، ومشت فيها الروح، ووجدت هؤلاء الناس لا يغلبون أبداً ماداموا مسلمين ولو اجتمعت عليهم دول الدنيا، لأن قوة الإيمان أقوى في نفوسهم من كل قوة، إنه لا يخيفهم شيء لأن الناس إنما يخوفون بالموت ومنه يخافون، وهؤلاء قوم يحبون الموت ويريدون أن يموتوا. كلا، لا يطمع قومنا بهذه الديار أبداً، أنا أقول لكم، وأنا قد عرفت القوم وتكلمت بلسانهم وخالطتهم ووقفت على ديانتهم وسلائقهم. كلا، إنه لا أمل لنا فيها، لقد أنزلوا الصليب اليوم، بعدما لبث مائة سنة فلن يعود، لن يعلو هذه القبة إلا شعار محمد، فلا نصرانية، ولا يهودية، إن كل بقعة في هذه الديار تنقلب إذا حزب الأمر وجد الجد حطين وكل وليد فيهم يصير صلاح الدين، فلا يهرق قومنا دماءهم هدراً، ولا يزهقوا أرواحهم في غير طائل.


ونظرت مارييت فإذا قومها قد آثر فريق منهم البقاء في ظل الراية الإسلامية حينما رأوا في ظلالها العدل والأمن والهدى، مع الحضارة والتمدن والغنى، وأبى فريق إلا الرحيل، فاختارت أن تكون مع هذا الفريق لا كرهاً بالمسلمين، فقد بددت شمس الحقيقة ظلام الأوهام؛ وكذب الواقع ما سمعت عنهم من الأحاديث، ولكنها لم تستطع أن تقيم وحيدة في البلدة التي يذكرها كل شيء فيها، بزوجها، وبحبها، وبسعادتها التي فقدتها...
ومشت القافلة وتلفتت مارييت إلى الوراء، تودع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها، المقدسة عندها، بلدتها التي ولدت فيها، ولم تعرف لها بلداً غيرها، ونظرت إلى موضع الصليب الذهبي الذي كان يشرق كالشمس على قلبها فرأته خالياً منه، فأحست أنها تركت قلبها في هذا البلد الذي كان لقومها، فصار لعدوها، والذي خلفت فيه زوجها، لا تدري في بطن أي طير أو في معدة أي وحش صار قبره...وخلفت فيه ذكريات صباها، وبقايا سعادتها وحبها، ولكنها فرحت بالخروج منه، حتى لا ترى ما يذكرها كل يوم بما فقدت، ولتلحق بديار قومها، وأهل ملتها...
سارت وهي سابحة في أفكارها، فتخيلت زوجها وهو يمشي معها في الموكب الظافر تحت راية الصليب، فبكت واختلط نشيجها بنشيج النسوة من حولها، وهن يبكين من خلفن من الأسرى والقتلى، وإذا بالجنود يوقفونهن، فسكتن من الفزع ووقفن وأيقن بالهلاك، فأرجعوهن فإذا على رابية طائفة من المسلمين بينهم شيخ على فرس له، لم يرع مارييت وصحبها إلا قولهم: هذا هو السلطان.
هذا هو السلطان، هذا صلاح الدين المخيف، آكل لحم البشر، وشارب الدماء. وجعلت تختلس النظر إليه فلا ترى ملامح الوحش الكاسر، ولا تبصر الأنياب ولا المخالب، لا ترى إلا الهيبة والنور والجلال، فلما وقفن عليه، قال: ما تردن؟
قالت امرأة: رجالنا في الأسر، أزواجنا...
وتصايحن وبكين، فبكى السلطان رقة لهن، وأمر بإطلاق أسراهن، وأعطاهن الدواب والطعام والمال...
لما رأت مارييت زوجها صحيحاً معافى، نسيت الشقاء والهزيمة، وألقت بنفسها بين ذراعيه، لم تخف أن يبصرها الناس، فقد جعل كرم السلطان كل واحد يشتغل بسعادته، ثم مشت الطريق بهؤلاء النازحين لم يمشوا هم فيها، لأنهم ملؤوها فلم يعد يعرف أول لهم من آخر، فكأن الطريق كالنهر الممتلئ بالماء من منبعه إلى مصبه، نهر من الأسى والفرح، والهزيمة في المعركة، والظفر بلقاء الأحبة، وكره الغالبين وشكرهم على إحسانهم، وأحست مارييت في قلبها بالاعتراف بفضل هذا الرجل المحسن، ورأت خلال الإنسانية والحق والنبل تتمثل فيه هو، لا فيمن رأت من رجال قومها. وكادت تحبه ثم تنبه في نفسها دينها، وما علموها من بغض الإسلام، فتوقفت، وحاولت أن تذكر سيئة واحدة لهذا الرجل ولقومه، تستعيد بها بغضاءها إياهم فلم تجد، وجعلت تقابل بينه وبين البطريرك الأعظم، الذي خرج مع القافلة بعدما استلب المعابد وكنوزها، وكنس الكنائس، وحمل كل ما كان فيها، ولم يعط من هذا المال أحداً، لم يجد به على امرأة ضعيفة تمشي معه، ولا على شيخ عاجز، وذكرت ما سمعت من أن السلطان تركه يخرج بهذا المال، مع أنه شرط لهم الخروج بأموالهم لا بأموال الكنائس، وذكرت ما كان يصنع قومها من إخلاف الوعود، والحنث بالعهود، فتمنت لو أنها كانت مسلمة، ولكنها لم تجهر بهذه الأمنية وخنقتها في نفسها.
وتدفق هذا النهر البشري يحمل أعجب أنواع السلائق الإنسانية، وأغرب المتناقضات، ففيه حنو الأمهات وإيثارهن، وفيه أثرة الأغنياء وقسوتهم، وفيه الصبر وفيه الجزع، وفيه الصدق وفيه التزوير، وفيه البطريرك الذي يزعم أنه خليفة المسيح ليساعد الفقراء، ويزهد  في الدنيا، ثم يأكل مال الله وحده، ويعرض عن الفقراء والمحتاجين.
مشت هذه القافلة في الطرق المقفرة، والمسالك الموحشة، لم تكن تحب أن تعرج على شيء من بلاد الإسلام، كانت وجهتها طرابلس، فلما بلغتها بعد الجهد البالغ، والمشقة المهلكة وبعد أن تركت في الطريق ضحايا الجوع والتعب، ماتوا وفي القافلة الأغنياء معهم الذهب، وفيها البطريرك يحمل من أموال الله مائة ألف دينار...
...لما بلغتها، أغلق أميرها السور في وجه القافلة وردها، ثم بعث رجاله فاستلبوها ما كان معها(1)، فانبرى لهم الشجعان والأبطال ليردوهم، فأوقعوا بهم وقتلوهم، وكان فيمن قتل زوج مارييت.
وتاه من بقي في البرية، كما يتيه الزورق في لجة البحر، وعاد أكثر أهلها إلى دنيا الأمن والمروءة والنبل دنيا المسلمين؛ وكانت مارييت مع التائهين؛ تمشي معهم قد مات حسها وتبلد شعورها، ولم تعد تستطيع أن تفكر في شيء، تنزل بنزولهم وترحل برحيلهم، وتأكل إن أطعموها، وتصمت إن تركوها، وكأنما قد خولطت في عقها، أو أصابها مس من الجنون؛ حتى بلغوا أسوار أنطاكية، فطردهم أهلها وردوهم(2)...
...فرجعوا إلى بلاد الإسلام وقد أيقنوا أنه لن يكون في الأرض أنبل ولا أفضل من هذا الشعب الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم كيف تكون الإنسانية...
أما مارييت فبقيت مكانها ذاهلة كأنها لا تبصر ولا تعي، فأقبل عليها شاب من أهل إنطاكية من قومها، فأخذ بيدها وواساها، فانقادت له، وسارت معه، حتى احتواها منزله على سيف البحر، فسقطت من التعب والإعياء نائمة...
وأيقظها لغط حولها؛ فاستفاقت فسمعت صوت رجل يقول لصاحبه:
-       ما ندعك تنفرد بها إنها أجمل امرأة وقعنا عليها.
-       فيقول الأول: ولكنها صيدي أنا ... أن الذي اصطادها.
فتفهم أن الخلاف عليها، على شرفها وعفافها، ويعود إليها ذهنها، فتذكر الماضي كله، وتدرك أنها فقدت زوجها وحاميها ويشد الغضب من عزمها.
فتقول لهما: ويحكم، أهذه هي مروءتكم وإنسانيتكم، أهذا هو دينكم يا أهل أوربة؟...
فيضحكان ويقهقهان، فيشتد بها الغضب، وتصرخ بهما: بأي لسان أخاطبكم؟ بلسان الدين وأنا أراكم ملحدين كافرين؟ بلسان الإنسانية وما أنتم إلا وحوش في جلب بني آدم؟ بلسان المروءة وقد فقدتموها ونسيتم حدودها؟
ويلكم لا تستحيون أن يكون هؤلاء المسلمون أشفق على نسائكم، وأحفظ لشرفكم منكم، وأن يكونوا أنبل وأفضل لوصايا السيد المسيح؟
لا والله لستم للمسيح ولا لمحمد أنتم للشيطان...أولئك هم الذين جمعوا المسيح ومحمداً، أولئك أهل الفضائل أرباب الأمجاد، خلاصة الإنسانية.
إنكم لن تغلبوهم. لن تأخذوا أرضكم المقدسة من أيديهم أبداً. كلا، إنهم أحق بها، لأنهم أوفى منكم لمبادئ المسيح...
إنهم أعرق منكم في الإنسانية، إن المستقبل لهم، إن لهم المجد والظفر، ولكم أنتم اللعنة، لكم الخيبة والخزي.
فلا تجد منهما إلا إيغالاً في الضحك، وتتلفت حولها فلا تجد ناصراً، وأين المعين على الحق، المدافع عن الشرف في بلد ليس فيه مسلم.
وتراهما قد أقبلا عليها بعيون محمرّة، فيجن جنونها، فتلقي بولدها في اليم وترمي بنفسها.
وكان البحر ساكناً فصعدت من الماء فقاعتان، فيهما اللعنة الحمراء التي خرجت من فؤادها المحترق، على هؤلاء (الواغلين على فلسطين)!.
وعاد البحر ساكناً كما كان ...
وأسدل الستار على القصة التي تتكرر دائما منا ومن هؤلاء الغربيين: قصة نبل لا يدانيه في عظمته البحر، ونذالة لا يغسل البحر أوضارها، ولا يطهر الأرض من عارها.

ـــــــ
المصدر: قصص من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-.
(1) يقول الشيخ الطنطاوي في الحاشية: كل ذلك حقائق تاريخية، رواها مؤرخو أوروبا.

(2) ذكر الشيخ الطنطاوي في الحاشية أن ذلك مذكور في كتب التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق