وديعة الله (1)
كان الفتى من أبناء التجار، بارع الفتوة، واسع الغنى، قد جمعت له
اللذائذ، وسيقت إليه المنى، دكانه البحر تنصب فيه جداول الذهب، وداره الجنة تجري
من تحتها الأنهار، وفيها الحور العين، خمسون من الجواري الفاتنات اللائي حملن إلى
بغداد من أقطار الأرض وحشدن فيها، كما تحمل إلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في
الروض، وزهرة جميلة في الجبل.
ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة، ومتعة العيش، حتى اشترى هذه الجارية
بخمسمائة دينار وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالاً أحلى من أحلام الحب، وأجمل
من بلوغ الأماني، وأطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياماً، وزاد فيها حتى بلغ بها
هذا الثمن، وانصرف بها إلى داره، وهو يحسب أنه قد حيزت له الدنيا، وأمتع بالخلود،
واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع
أن يصبر عنها؛ ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس
فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم أن تلمسها يد
النسيم، ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه، فيهرع إليها ليطفئها بلماها.
لقد صار هذا الحب مصدر لذته، وسر حياته، ما كان يدري من قبله ما
اللذة وما الحياة، وما كان يحس أنه يعيش حقا، وأن له قلباً، وما كان يدرك من قبله
بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر، كان ذلك عنده كالألفاظ بلا معنى،
يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب؛ فلما عرف الحب أدرك أن وراء
هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد، وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي
الرجل في المتحف المظلم، فطلع عليه هذا الحب نوراً مشرقاً أراه هذه التحف الفاتنات
وهذه الروائع.
وتتالت الأيام، وزاد إقبالاً عليها وإعراضاً عن الدكان. وكان يبصر
دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد
الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفر منه، ولا يزداد إلا تعلقاً
به وتمسكاً بأهدابه..وكان كل ما في الحياة من متع، لا يعدل عنده لحظة واحدة من
لحظات الوصال، وذهب الأرض كله لا يساوي هناءة من هناءات الحب، فكان يترك البائعين
والمشترين، ويسعى إليها ليشتري منها اللذاذات والقبل.
وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته، قال لها: مالي
وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي، فلا تستطيع أن تفتح فمها بجواب لأن شفتيه تقيدان
فمها فلا ينفتح!
وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال، وذهب الأثاث،
وبيعت الجواري، ولم يبق في يده شيء يباع؛ فأقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأس
على ذاهب، ولم يحس بفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة، ويجد في حبها غذاءه إذا جاع،
وريّه إذا عطش، ودفئه إلا برد، وفي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها
بديلاً من اللآلئ، وفي ريقها عسله المصفى، وخمره المعتق، ومن ريحها عطره الفواح،
وفي صدرها دنياه، ويرى الدار الخالية معها قصراً عامراً، والصحراء روضة مزهرة،
والليل المظلم معها نهاراً مضيئاً...
وأثمر الحب وجاء الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجئ في الربيع
الطلق، ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح، والأيام القاتمة الدكناء،
أيام الفقر والعوز، وأخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها
إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلي وجهه، وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب...وطال
عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أن ألمها في ضلوعه، وأن كل صرخة منها سكين محمي
يحز في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئاً، وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال: إني
أموت...فاذهب فاحتل بشيء تشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً-دهن السمسم-، اذهب وعجل،
فإنك إذا أبطأت لم تجدني.
وخرج...وصار يعدو كالمجنون، أين يذهب والليل قد مالت نجومه؟ والناس
نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ إليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيّره غريباً
فيها، ليست منه ولا هو منها، وكذلك يصنع الحب!
وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعاً
ساكناً، والناس قد أمّوا بيوتهم، وأنسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد، لا أهل له
إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت، وعجز عن إسعادها؛ ولا دار له إلا هذه الخرب
التي فرّ منها.
لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى له في
دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها من نور.
وتصور الوحشة المخيفة، والوحدة المرعبة، التي سيقدم عليها إن ولت عنه
هذه المرأة التي كان يعيش بها ولها، ونظر إلى ماء دجلة يجري أسوت ملتفاً ببرد
الليل، فأحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلواً فيه متعة اللقاء، وأنسة
الاجتماع...
وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها، وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه
إلى الله ودعاه من قبله صادقاً مخلصاً وقال: (يا رب، إني استودعتك هذه المرأة وما
في بطنها..)، وهمّ بإلقاء نفسه في الماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب
ورؤاه، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق درابزين الجسر فأدركته
حلاوة الروح فراح يتصور برودة الماء، ويفكر في الموت هل يأتيه سهلاً هيناً، أم هو
سيذيقه العذاب ألواناً، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى، وهل يختنقون عاجلاً أم
يبطئ عليهم الموت، وذكّره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة، أليس الله قد حرّم
الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكاً لله وحده أودعها جسده أمانة ليستردها متى شاء،
ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدها، وذكر أنه توجه إلى الله
واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثماً ويسأله عونها وحفظها. وتنبه إيمانه فتردد،
ووقف...ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم، وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب،
فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزماً مبرماً على الموت وأغمض عينيه، وخفق قلبه من هول
ما يقدم عليه، وكاد يقفز ولكن...ولكن قوة لم يطق لها دفعاً، ولم يملك معها حراكاً
أمسكت به...تلك هي الصيحة التي أحس بها من بعيد، ثم رآها امتدت حتى بلغت الأفق
الذي أطل منه الفجر، والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمرت النهر والشاطئين
والمدينة...فأحس بها تشرق على نفسه كهذا الفجر فتبدد ليلها، ذلك هو صوت المؤذن،
ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا، أجلّ وأجمل نداء اهتز به هذا الفضاء ومشى فيه:
(الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله).
وسمع: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فرأى فيها مجد الآخرة
بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبت القوة والعزم في أعصابه فعدل عن الموت، ورجع
إلى الدار فرأى فيها نساء من نساء الجيران سمعن صوتها، فجئن إليها، فسألهن عنها،
وكانت مغمى عليها فحسبوها ماتت وأخبروه بموتها فلطم وجهه وشق ثوبه، وانطلق ماشياً
على غير هدى تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب
وآداب الإسلام، يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجراً ولا شكراً،
وجعل يطوي الأرض، والأرض تطوي صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.
.... نكمل القصة في الجزء الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قصص من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق