الاثنين، 3 مارس 2014

العراقي الذي صار أميراً في النرويج

العراقي الذي صار أميراً في النرويج
هذه قصة حقيقية لعالم عراقي مغترب.. سجلَتها جريدة المستقبل العراقي بحوارها المباشر معه.
تتحدث القصة عن النجاح المرموق الذي حققه هذا العالم الكبير البسيط المتواضع، وكيف ارتقى بمستوى السياسة النفطية النرويجية نحو الأفضل، وحقق للنرويج حلمها النفطي في بحر الشمال، فانتشل سفينتها الاقتصادية من الغرق المحتوم، حتى صار بطلاً قومياً ورمزاً وطنياً في الحكايات الشعبية، فاستحق أعلى المناصب ونال أرفع المراتب.
توجتهُ الصحافة الاقتصادية العالمية أميراً في المملكة النرويجية، فكانت أوسمة الإمارة دون استحقاقاته الأكاديمية، لم يكن يفكر بالأوسمة ولا بالإمارة، فليست الألقاب هي التي تكسب المجد، بل العلماء من يكسبون الألقاب مجداً بما يحملونه من مواهب وقدرات عقلية وإبداعية..

لم يخطر على باله أنه سيغادر مرافئ شط العرب، ويرحل بعيداً عن البصرة ليرمي مرساته في بحر الشمال عند مقتربات المنصات النفطية العملاقة، بيد إن الرياح هي التي جرت بما لا تشتهي السفن، فغيرت اتجاهات بوصلته صوب الشمال (Northward أو(Nor-Way أو(Norway أو(النرويج(، فحمل معه براءة أهل البصرة وعذوبتهم الساحرة في التعامل العفوي مع الناس، من دون أن يلجأ إلى التكلف ولا التصنع، فاستقبلته مرافئ النرويج، وكلفته بمهمة تقييم التنقيب في بحرها الإقليمي، فكان أول من تنبأ باكتشاف الحقول المختبئة في القاع السحيق..
كان الخبير النفطي العراقي فاروق القاسم هو طائر السعد الذي حلق في سماء أوسلو ليحمل معه الأخبار السارة، ويضيف الملامح السعيدة إلى الوجوه المشرقة الطافحة بالنضارة والجمال، فاكتملت الصورة بالماء والخضراء والثروات النفطية المتدفقة من قاع البحر..
وإليكم الحكاية التي سنختصرها هنا، والتي صارت من الحكايات الشعبية الاسكندينافية، أما بطلها فهو السندباد الجيولوجي، الذي منح الاقتصاد النرويجي شحنات إضافية، ووضع المملكة النرويجية في طليعة الأقطار الأوربية النفطية الناهضة..
 الهجرة إلى عاصمة الضباب
ولد فاروق بن عبد العزيز القاسم عام 1936 م في منطقة الخندق من ضواحي البصرة، لأسرة عربية متدينة، تنتمي إلى عائلة (المبارك(، التي ترتبط بأواصر النسب مع بعض العوائل الإماراتية، التي احترفت الملاحة في عرض البحر..
كان جده قاسم ملاحاً ماهراً، عرفه الناس بامتلاكه للسفن الشراعية، وبكثرة أسفاره ورحلاته البحرية الطويلة بين مرافئ الهند والسند ومرفأ البصرة، الذي كان سيد الموانئ والمرافئ في الخليج العربي..
كان أبوه مربياً فاضلاً، كرس نشاطاته التربوية والإنسانية في رعاية الأيتام، ووضع الأسس الصحيحة لاحتضانهم وتعليمهم وتأهيلهم، فكان من خيرة المديرين الذين تعاقبوا على إدارة مبرة البهجة في البصرة..
نشأ فاروق في كنف هذا الرجل الطيب في بيتهم الواقع في منطقة الخندق، ثم انتقلوا مؤقتاً إلى بساتين أبي الخصيب.
أكمل دراسته الأولية برعاية والده وإشرافه، ثم شد الرحال إلى بريطانيا عام 1952 م؛ لمواصلة دراسته العليا على نفقة شركة نفط العراق، فالتحق بالكلية الإمبراطورية بلندن، وتخرج فيها عام 1957 م، وكان من ضمن الدفعة الأولى لقسم الدراسات الجيولوجية.. عمل بعد تخرجه في إدارة الحقول بشركة نفط البصرة في البرجسية، ثم ترك الوظيفة عام 1967 م، ولا ندري بالضبط، ما الذي دفعه لتقديم استقالته لينتقل عام 1968 م للعيش في النرويج مع زوجته النرويجية (سولفرد(، وأولاده (فريد(، و)نادية(، و)رائد).
ربما كان لمرض ابنه الأصغر (رائد(، وإصابته بالشلل الدماغي التأثير الكبير في مغادرة العراق للبحث في المستشفيات النرويجية عن آخر ما توصلت إليه العلوم الطبية في التغلب على هذا المرض، بعد أن يئس من العثور عليه في العراق.
وصل فاروق إلى لندن برفقة زوجته وأطفاله، فتلقى توجيهات طبية تقضي بسفره إلى النرويج، التي سيجد في مستشفياتها العناية المرجوة لابنه العليل، وهكذا غادر لندن على الفور، وتوجه إلى أوسلو، فوصلها في الصباح، وكان يتعين عليه أن يستقل قطار المساء ليستقر في البيت الريفي لعائلة زوجته، فوجد أنه بحاجة إلى تمضية بعض الوقت في التجوال، وشاءت المصادفات أن يمر بالشارع الذي تقع فيه وزارة الصناعة، فوقف يتأمل بنايتها من بعيد، ثم قرر الولوج في أروقتها للاستفسار عن إمكانية تشغيله في إحدى شركات توزيع النفط في العاصمة، أو العمل بعقد مؤقت في نشاطات الوزارة النفطية المحدودة، لعلها تحتاج إلى خدمات جيولوجي متخصص بالتنقيب عن النفط، لكنه لم يجد من يتفاهم معه في هذا الشأن، وطلبوا منه العودة بعد ساعتين. فكانت المفاجأة المصيرية.
 اللقاء المصيري
بعد ساعتين بالتمام والكمال، كان فاروق يجلس في مقر الوزارة حول مائدة مستديرة تضم نخبة من خبراء وزارة الصناعة النرويجية، لم يكن مرتبكاً في الرد على استفساراتهم، بل على العكس تماماً، فسرعان ما تحولت مسارات الحوار في هذا اللقاء لمصلحته منذ الدقائق الأولى، وبدا وكأنه هو الذي يوجه الأسئلة، وهو الذي يدير المقابلة، واكتشف بفراسته العربية الصائبة، أنهم بحاجة إلى شخص بمستواه المهني والمهاري والعلمي في المجالات النفطية الحقلية، فاستطاع أن يقنعهم
ويستحوذ على اهتماماتهم، وانتهى اللقاء بتوقيع عقد التوظيف بدرجة مستشار نفطي مبدئياً لمدة ثلاثة أشهر فقط، ولكنها استمرت من أيلول سبتمبر1968 م إلى نيسان أبريل1973 م، على مدى أربع سنوات وثمانية أشهر، بمرتب شهري مشجع، في موقع مرموق، وأُنيطت به مهمة تحليل نتائج التنقيب في بحر الشمال منذ اليوم الأول لالتحاقه بوظيفته الجديدة، ولم يكن يعلم أنه سيكون قدم السعد، وتنفتح بوجهه مغاليق الحقول النفطية الغائرة في تلافيف البحر الغاضب.
 الغوص في بحر الشمال
فاتني أن أذكر أن النرويج كانت قبل وصول فاروق من البلدان الأوربية الفقيرة، وكانت تعتمد في توفير غذائها على الصيد البحري، ومنتجات الألبان، وزراعة الفواكه والخضراوات في البيوت الزجاجية المغلقة، وكانت تمني نفسها باستخراج النفط من باطن الأرض، أو من جوف البحر، بيد أن مديرية المسح الجيولوجي النرويجية استبعدت إمكانية العثور عليه في البر والبحر، وهكذا فقدوا الأمل، وهبت عليهم رياح اليأس، فركزوا جهودهم على حماية حياتهم الهادئة، والبقاء على صناعاتهم التقليدية، فجاء فاروق ليغير الأوضاع البائسة، ويبعث الآمال من جديد في ضوء التقارير الإيجابية، التي أعدها بنفسه، فحمل الأنباء السارة، وزف لهم البشرى وهم لا يصدقون وأثبتت عمليات الحفر بما لا يقبل الشك وجود النفط بكميات هائلة في حدود المسطحات البحرية النرويجية، فانقلبت التوجهات المركزية رأساً على عقب منذ ذلك اليوم، وتجددت العمليات البحرية، فتولى فاروق قيادة الأنشطة التنقيبية والإنتاجية، وتفعيلها ميدانياً..
كانت النرويج تعاقدت قبل وصول فاروق مع شركة فليبس بتروليوم للتنقيب عند سواحل جرفها القاري، وكانت الشركة على وشك الاعتذار، وإعلان الانسحاب، بعد أن فشلت في العثور على النفط، فتصدى لها فاروق بحججه العلمية وبياناته المنطقية، واستطاع أن يقنع الحكومة النرويجية برفض طلبات الإعفاء، التي تقدمت بها (فليبس(، وطلب من الحكومة فرض غرامات مالية ثقيلة على الشركة التي كادت تعلن التخلي عن التنقيب، وأكد ضرورة التركيز في التنقيب عند حقل (إيكوفيسك(، ولم تمض بضعة أيام على هذا الإصرار الفاروقي حتى تحققت المفاجأة، وتدفق النفط بكميات هائلة من قاع البحر، فأشرقت شمس البصرة الدافئة على الربوع النرويجية باكتشاف كنوز النفط ومشتقاته..
نجح فاروق في مهمته، فحلق بالنرويج من أسفل سافلين إلى قمة البلدان الأوربية الناهضة، فقفزت بين ليلة وضحاها إلى مصاف الأقطار النفطية، وتألقت في حلبة الاستكشافات النفطية بمساعدة هذا الشاب البصري المفعم بالحيوية، فتسلق سلم المجد، وارتقى إلى أعلى الدرجات والمراتب، فكلفته الحكومة النرويجية بإدارة عمليات التنقيب والإنتاج في عرض البحر، وكان هو الذي يدير دفة التفاوض في الشؤون التقنية مع الشركات الكبرى، وهو الذي يرسم الخطوط العامة للتشريعات النفطية والمالية، وكان هو الذي وضع اللبنة الأولى لتأسيس شركة النفط الوطنية النرويجية Statoil (، وهو الذي أطلق عام 1996 م فكرة إيداع إيرادات النفط النرويجية في صندوق توفير خاص يضمن حصة كل مواطن نرويجي، من الصغير إلى الكبير، ومن دون تمييز مذهبي أو طائفي أو عرقي أو فئوي، فمثل هذه التصنيفات غير موجودة في أذهان أعضاء الحكومات النرويجية المتعاقبة، وكان هو الذي اقترح على الحكومة النرويجية اعتماد ضوابط ثابتة صاغها بنفسه لضبط مسار التعاملات النرويجية المحدود مع الشركات النفطية الأجنبية، فكان له ما أراد، وصادق عليها البرلمان وصارت من التشريعات النافدة..
 تحولات إيجابية
تحول فاروق من عمله كمستشار نفطي ليصبح هو المدير العام لإدارة الموارد النفطية في عموم الرقعة الجغرافية للنرويج، للمدة من نيسان (ابريل)1973م إلى كانون الأول)ديسمبر) 1990م، على مدى أكثر من ربع قرن من الزمان، وعلى وجه التحديد (سبعة وعشرين عاماً وتسعة أشهر(، تألق فيها فاروق نحو الأعلى عندما وضع الأسس الصحيحة لاستثمار النفط في حقل (ترولTroll (، الواقع تحت إشراف خمس من كبريات الشركات النفطية، لكن اللافت للنظر، أن تلك الشركات كانت تستهين بمكامن النفط في هذا الحقل، وتظن أنها من الحقول غير المجدية اقتصادياً، ولا ترى أية فائدة ترتجى منه، في حين كان فاروق يخالفهم الرأي، ويصر على التركيز على استثمار النفط في هذا الحقل قبل الشروع بإنتاج الغاز، ويطالبهم بالسعي لتكثيف جهودهم، والعمل بتوجيهاته الميدانية السديدة، وبالخطوات التقنية التي رسمها لهم، مؤكداً استخراج
النفط في المرحلة الأولى، ومن ثم الانتقال إلى استخراج الغاز الطبيعي في المرحلة الثانية، فكان له ما أراد، ونجح في إنقاذ هذا الحقل من الضياع، وهو الآن من أكبر خمسة حقول في تاريخ النرويج.
لم يواجه فاروق أية صعوبات في تعامله اليومي مع البيئة البحرية المعروفة بتقلباتها وقسوتها، وتلاطم أمواجها، وصعوبة التنقيب في أعماقها السحيقة..
لقد تنبه هذا الرجل لنقاط الاختلاف الجوهرية بين التنقيب في اليابسة والتنقيب في عرض البحر، واستطاع أن يتجاوز الفوارق الهندسية الكثيرة في التصاميم والحفر والتطوير والإدامة، وما إلى ذلك من تعقيدات تفرضها الظروف البحرية السائدة في بحر الشمال..
انصبت اهتمامات فاروق على كيفية التصرف بالموارد النفطية حتى تحقق الفائدة الكاملة، لم يقصر تفكيره على استخراج النفط من جوف البحر، بل كان مجسداً بسلسلة من الخطوات تبدأ بالتصرف بالموارد بالشكل الصحيح لاستخلاص أكبر نسبة من النفط الموجود تحت سطح الأرض، ومن ثم تحويل الموارد المستخرجة إلى موارد نقدية، ثم الإصرار على تحويل الريع المالي إلى فوائد مستدامة تخدم الشعب بكل فئاته، وترعى مصالحه كلها، ولن تتوقف عند مراحل الإنتاج والتوزيع وحسب، بل تشمل كل المراحل الاقتصادية والتنموية والسياسية، بآفاقها المستقبلية العميقة الواسعة، وبالاتجاه الذي يلبي الاحتياجات الضرورية، ويحقق الأهداف الوطنية الإستراتيجية..
يعمل المفكر فاروق حالياً رئيساً لمؤسسة (بتروتيم Petroteam) وقد باشر بهذه الوظيفة منذ أكثر من 21 عاماً، وحتى هذه الساعة، آخذين بنظر الاعتبار أنه التحق بها عام 1991 م..
لقد قدم فاروق في العقدين الأخيرين خدمات لا تحصى للعديد من البلدان في إفريقيا والشرق الأوسط، منها تنزانيا، وموزنبيق، وغانا، وأنغولا، وساحل العاج، وأرتريا، والسودان، ولبنان، والعديد من البلدان المتعاونة مع النرويج، وكانت جميعها تهدف إلى تحسين إدارة قطاع النفط فيها، وخلق فوائد مستدامة لشعوب تلك البلدان، والحفاظ على تلك الفوائد والمنافع، ومنعها من التلاشي والضياع والغرق في مستنقعات الأزمات النفطية الخانقة..
بمعنى أنه أمضى نحو 4سنوات من غربته بدرجة مستشار، ثم أمضى نحو 27 عاماً مديراً للموارد النفطية، وأمضى نحو 21 عاماً رئيساً لمؤسسة (بتروتيم). ومن ثم فإن المحصلة العامة للخدمات الجليلة التي سجلها هذا الرجل العبقري المبدع تزيد على نصف قرن من الكفاح الميداني المضني في عرض البحر، بما يشتمل عليه هذا الكفاح الطويل من دراسات جيولوجية ومسحية وتحليلية وتخطيطية مجدية، وبما واجهه من معوقات وصعوبات وتحديات، كان لها الأثر الكبير في انتشال النرويج من واقعها الريفي الفقير، والارتقاء بها نحو مصاف الأقطار النفطية الغنية، المتباهية بحقولها النفطية والغازية المنتشرة في بحر الشمال.
 ثمرة الإبداع والتألق
دفعه حبه لفلذة كبده (رائد) إلى تحمل مشقة البحث عن دور الرعاية الصحية بين بريطانيا والنرويج، ومضى في بحثه المضني حتى أخذ الله بيده، وشمله برحمته الواسعة، فكُتب للطفل المشلول الشفاء، وتحسنت صحته بشكل ملحوظ، واستقرت العائلة في مدينة (ستافنجر) جنوب غرب النرويج، وأكرم الله رب الأسرة الصابر المثابر، فهيأ له سبل النجاح، وذلل له الصعاب، فتدفق الخير بين يديه، وتفجرت ينابيع الطاقة من ظلمات البحر المتلاطم الأمواج. وكان هو الخبير الكفء، والعالم المتميز بعبقريته الفذة..
عرفه الشعب النرويجي بأفكاره المستقبلية المثمرة، فنال الشهرة الواسعة، وعشقه الناس في القرى النرويجية لتواضعه وبساطته، فاستحق صولجان الريادة، ونال حبهم وكسب صداقتهم، فكانت قصة رحلته من البصرة، المتوهجة بحرارتها الخليجية، إلى أوسلو، المتجمدة ببرودتها القطبية، من أروع القصص والحكايات الشعبية في تلك الديار القريبة من القطب الشمالي، فذاع صيته هناك، وكان هو البطل الذي أنقذ الاقتصاد النرويجي من الانهيار..
ختاماً نقول: كان فاروق أول من اكتشف أن السعادة في النرويج هي الشيء الوحيد الذي يتعارض مع قوانين الرياضيات، فكلما تقاسمها مع الآخرين تضاعفت وازدهرت.

ـــــــ

المصدر: قصص علمتني الحياة الجزء3 إعداد محسن جبار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق