الجمعة، 28 مارس 2014

الصبر طيب

الصبر طيب
تخرج من كلية الحقوق فمارس المحاماة ردحاً من الزمن، ثم تسلم وظيفة كتابية في إحدى المحاكم، وكانت وظيفته في قضاء من أقضية لواء بغداد.
وكانت المسافة بين مقر وظيفته في المحكمة، وبين مدينة بغداد لا تزيد على الستين كيلو متراً، فكان يزور بغداد في عطلة نهاية الأسبوع. يتحرك من مكانه بعد انتهاء الدوام الرسمي من ظهر يوم الخميس، فيصل إلى بغداد بعد ساعة واحدة بالسيارة، فيقضي مساء الخميس ويوم الجمعة في بغداد، ثم يعود إلى عمله فجر يوم السبت من كل أسبوع.

وكان يمضي عطلته الأسبوعية بين أهله في (الكرادة الشرقية) إحدى ضواحي مدينة بغداد، يقضي لهم حوائجهم، ويرتب لهم أمورهم، ويشتري لهم ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء، فإذا أكمل واجبات بيته، انصرف إلى واجبات قلبه.
كان شاباً قوياً وسيماً، ولم يكن متزوجاً، ولا ممن يردعهم دين أو خلق أو تقاليد عن ارتياد مزالق الشيطان في الملاهي والحانات والنوادي الليلية، وكان له أصحاب يأمرونه بالمنكر وينهونه عن المعروف.
والخلاصة: أنه كان شاباً من شباب هذا العصر بما فيهم من شر كثير، وخير قليل، عقله فارغ من تعاليم الدين، وجيبه مليء بالمال، وله من وقته فراغ، وقد تعلم أن من متطلبات العصر التحرر من الفضيلة، والتظاهر بالرذيلة، وإلا كان متخلفاً عن ركب الحضارة، متمسكاً بالتخلف والجمود.
ومادام شباب أوروبا مائعين مستهترين، فلابد من التمتع والاستهتار.
وقدم بغداد ذات خميس، فقصد داره واستراح فيها قليلاً، ثم غادرها إلى سوق (السراي) حيث بدأ جولته في السوق كعادته.
وفي سوق السراي مكتبات للوراقين، ومحلات لبيع الأقمشة، ورواد المكتبات أكثرهم من الرجال، ورواد محلات الأقمشة أكثرهن من النساء.
والنساء الرائحات الغاديات في سوق السراي، الكاسيات العاريات ومن المحتشمات أيضاً، من كل جنس ولون، يشترين الأقمشة، ويتفرجن على الغادين والرائحين من جنسهن ومن الجنس الآخر.
وشارع النهر الذي يتصل بسوق السراي، معرض في طوله وعرضه للنساء المتبرجات، كأنهن من بنات الشياطين فتنة وإغراء، نزلن الأرض ليكن أعواناً للشياطين وأحابيل لمكرهن وكأنهن لم يكتفين بسحر الشيطان، فأضفن من عندهن سحراً جديداً يعجز عنه الشيطان، ومكر إبليس ومكرن فكان مكرهن أعظم وأشد أثراً وتأثيراً!..
وفي سوق السراي حيث تباع الكتب، يقل رواد المكتبات عاماً بعد عام، وتكاد وجوه الذين يرتادونه من هواة الكتب لا تتبدل إلا إذا مات أحدهم أو سافر إلى بلد آخر أو سكن بلدة أخرى.
وفي سوق السراي حيث تباع الأقمشة، يزداد الرواد عاماً بعد عام من الجنسين اللطيف والخشن، وتكاد وجوه الذين يرتادونه تتبدل كل يوم أشخاصاً وأزياء، ولعل زي الخنافس الذي أخذ يظهر بالتدريج في السوق ليس آخر الأزياء التي تتهادى فيه متحدية كل عرف وكل خلق كريم.
وهكذا يتضاءل أثر العقل في قسم المكتبات من سوق السراي، ويتضخم أثر العاطفة في قسم الأقمشة.
وسار الشاب بخطوات وئيدة في سوق السراي، يتلفت يميناً وشمالاً، ويحصي كل شاردة وواردة فيه، فإذا وصل إلى آخر السوق عاد يمشي الهوينا إلى أوله.
ولمح امرأتين تحدثان صاحب حانوت من حوانيت الأقمشة، وهما يضاحكان البائع، ويناقشانه الحساب نقاشاً باسماً.
وأقبل يسأل البائع عن قماش ما، وكل حواسه آذان صاغية إلى أحاديث المرأتين الجميلتين. وأقبلت إحداهن عليه ترشده إلى أحسن أنواع الأقمشة، فأخبرها بأنه يريد أن يشتري هذا القماش لأجمل مخلوقة رآها في حياته، وأنه أحبها لأول نظرة..
واشترى القماش ودفع ثمنه، ثم طلب تغليفه وقدمه هاشاً باشاً إلى تلك المرأة، وهو يقول: أنتِ التي أحببتها لأول نظرة...وأنتِ..
وشكرته المرأة، ثم سارت هي وصاحبتها، وأومأت إليه أن يسير في أثرهما، حتى دخلتا داراً من دور محلة (العاقولية)، فالتفتت إليه المرأة وودعته بابتسامة مشرقة، وأشارت إليه بالانتظار.
وانتظر قليلاً بالقرب من الدار، حتى خرجت إليه وهمست في أذنه: أنها ستنتظره في هذه الدار ظهر يوم غد الجمعة.
ثم عادت أدراجها من حيث أتت، وغادر صاحبنا مكانه وهو يهنئ نفسه على هذا الصيد الثمين.
وعاد إلى بيته مبكراً، وهو منشرح الصدر باسم الثغر، فاستبشر أهله بمقدمه المبكر خلاف عادته، إذ كان يسهر ليلة الجمعة حتى الهزيع الأخير من الليل.
وآوى إلى فراشه مبكراً، بعد أن ترك أثراً محموداً في نفوس أهله، فقد كان لطيفاً معهم، كما أغدق عليهم الوعود المعسولة.
وقال أبوه لأمه وهو يحدثها عن أمانيه في ابنها الشاب: (الحمد لله...يبدو أنه صحا من سكرته وأذعن للحق بعد امتناع، ولابد لنا من الاستمرار على تشجيعه على الزواج).
وذابت الأم رقة، لأنها كانت تحلم بمستقبل سعيد.
وداعبت صاحبنا الأفكار والأماني على فراشه، وصاحب دقائق الليل البهيم بعدها عداً، ولم يزر الكرى عينيه، فلما سمع صوت أقدام في صحن المنزل تقترب ريداً رويداً حتى أشرقت الشمس ترك فراشه، وملأ الدار غناء ونشيداً ومداعبات.
ولم يدرِ كيف يقضي الوقت ما بين صباح الجمعة وظهرها، وكان في كل لحظة يحملق في ساعته يستعجلها الحركة.
وقبل ساعة من حلول الموعد المرتقب، ارتدى أفخر ثيابه، وأطال الوقوف أمام المرآة ينظم شعره ويهندم مظهره، ثم تعطر بأفخم ما عنده من عطور، وكأنه عروس تزف إلى زوجها، فلما اطمأن إلى مظهره الرائع غادر داره ميمماً شطر دار حبيبته في محلة العاقولية.
ووجد باب الدار مفتوحاً، فدخل الدار، وجال في أنحائها، فلم يجد أحداً.
وعندما نزل السرداب وجد إحدى المرأتين اللتين رآهما في سوق السراي نائمة على سريرها الفخم، مرتدية غلالة من اللاذ-ثياب حرير تنسج بالصين- تظهر من مفاتنها أكثر مما تخفي.
لم تكن تلك المرأة النائمة هي التي كلمته أمس، ولكنه قال لنفسه: من يدري؟! لعلهما قد اتفقتا على ما حدث...ولعلها في مكان آخر من هذه الدار...
وجلس صاحبنا مبهوراً بجمال المرأة النائمة، ولعل هذا النوم قد زادها فتنة وجمالاً، وإذا كانت صاحبة الجمال نائمة، فإن جمالها يقظ لا ينام.
وبينما كان صاحبنا مبهوراً بالجمال الحالم، يحدث نفسه ويمنيها وتمنيه، يعيش لحظاته السعيدة في نشوة وحبور، إذ رأى رجلاً مفتول العضلات طويلاً شامخاً يقف على رأسه في السرداب.
وطارت نشوة صاحبنا فجأة، وجاءت الصحوة...
وارتبك صاحبنا، وأخذت أنفاسه تلهث بسرعة، وأخذ قلبه يدق بسرعة أيضاً.
وكان يفقد صوابه ويخر مغشياً عليه، ولكن الرجل القادم قبل لحظة بادره بالتحية، ورحب به أجمل ترحيب، أذهبت عنه بعض ما يعانيه.
وفي رفق ودماثة دعاه الرجل إلى مصاحبته إلى غرفته الخاصة في الدار، وفي تلك الغرفة أعاد الرجل تحياته وترحيبه، وحدثه حديثاً قصيراً أذهب عنه الروع كله، وجعله يطمئن على مصيره كل الاطمئنان.
وتركه الرجل في الغرفة، وقصد زوجه في السرداب، ثم أيقظها وطلب إليها أن تحضر الطعام.
وتناولا طعاماً شهياً، تخللته أحاديث طلية شهية، ثم تناولا الفاكهة والحلوى والشاي.
وسأل الرجل صاحبنا: أتحسن لعبة النرد؟ ثم جاء بالنرد وأخذا يلعبان في حماسة شديدة وشوق، حتى سمعا المؤذن ينادي لصلاة المغرب.
واستمرا في اللعب مدة أخرى، حتى مضت ساعتان من الليل فاستأذن الرجل، وقصد غرفة مجاورة، وعاد إلى صاحبنا يحمل مسدساً فيه سبع طلقات كافية لنقل سبعة أحياء إلى الدار الآخرة...!.
كان صاحب الدار موظفاً كبيراً، وكان معروفاً ببعد نظره ورجاحة عقله واتزانه وتمسكه بالخلق القويم.
وكان موضع ثقة معارفه من موظفين وغير موظفين، وكان يملأن الأعين قدراً وجلالاً.
وكان يعرف زوجه معرفة عملية، فقد عاشا معاً تحت سقف واحد سبع عشرة سنة، لم يعكر صفوها خلاف أو نزاع.
ولم يكن صاحبنا يعرف الرجل ومكانته ولا منزلته الاجتماعية، فقد كانا من جيلين متباعدين، وكان من محلة (الكرادة الشرقية) البعيدة عن العاقولية.
وضع الرجل بهدوء مسدسه على المنضدة، ورفع النرد وألقاه على الأريكة المجاورة وكان هادئاً كل الهدوء، متزناً كل الاتزان، لم تفارق وجهه ابتسامته الحلوة، كأن كل ما حوله اعتيادي لا غبار عليه.
وبدا على صاحبنا الاستغراب والعجب، فهو يرى المسدس أمامه على المنضدة، ولكنه يجد الرجل الحصيف هادئاً باسماً.
ومرت لحظات على صاحبنا كأنها سنوات، لا يعرف ما يفعل وكيف يتصرف.
وساد الصمت الثقيل حو الغرفة، فأراد صاحبنا أن يقول شيئاً، ولكن لسانه لم يسعفه بكلمة واحدة.
لقد تبلد دماغه، ونسي لغته، وخارت قواه، وأصبح يرتعش كأنه يعاني برداً شديداً على الرغم من أنه في فصل الصيف الجهنمي صيف بغداد.
وقطع الرجل الصمت الثقيل بقوله: (ذهب وقت الراحة، وجاء وقت الجد...لن ينقذك مما أنت فيه غير الصدق، فما الذي جاء بك إلى هذه الدار؟).
ولوح الرجل بمسدسه إشارة إلى نهاية صاحبنا المرتقبة..إنه الموت رمياً بالرصاص!.
وتلعثم صاحبنا، وبلع ريقه مرات، ثم تماسك وقص قصته كاملة، وصاحب الدار يصغي إليه بانتباه شديد.
ونادى الرجل زوجه، فجاءت تمشي على استحياء، فسألها: أن كنت أمس؟.
وحدثته بأنها كانت في سوق السراي مع فلانة زوجة أحد موظفيه، وأنها اشترت أقمشة وعادت إلى دارها.
واستمع الرجل إلى زوجه، ثم طلب إليها أن تهيء نفسها لزيارة خاطفة طارئة لصاحبتها بالأمس.
وقصد الرجل تلك الدار، ومعه زوجه وصاحبنا، فاستقبلهم الزوج بترحاب مشوب بالاستغراب.
وبعد السلام والكلام، اطلع على الأقمشة التي اشترتها صديقة زوجه، وعرف كل شيء.
وغادر الرجل تلك الدار، وفي الطريق سأل صاحبنا عن مكان داره، وأبى إلا أن يرافقه بسيارته إليها.
وعلى باب دار صاحبنا، انكب على يد الرجل يلثمها وكأنه في حلم مرعب طويل.
وسأل صاحبنا الرجل أن ينصحه، فقال له: (لا تعد لمثلها أبداً...من تعقب عورات الناس تعقب الله عوراته، ومن تعقب الله عورته فضحه ولو كان في جوف رحم...).
وفي طريق عودته إلى داره، قص قصة صاحبنا على زوجه، وكان فكرها خالياً من كل شيء.
وتعلم صاحبنا الشاب درسه.
كان أبواه الصالحان يدعوان الله في أعقاب كل صلاة: أن يهدي ولدهما إلى طريق الحق والصلاح.
واستجاب الله سبحانه وتعالى دعواتهما بهذه الصورة وبهذا الشكل الغريب.
وحين استقر صاحبنا في داره بين أبويه، قال لهما: (لابد لي من الزواج العاجل، فلم أعد أطيق حال العزوبية والتشرد وعدم الاستقرار).
وفتح الأبوان فاهما استغراباً وقالا: كيف حدثت المعجزة؟!.
وفي عطلة الأسبوع القادمة، اتصل صاحبنا بالرجل صاحب الدار، وسأله أن يعينه على اختيار زوج له، وأخبره بأنه أبوه بعد أبيه.
وابتسم الرجل ابتسامة عريضة، ودعاه إلى تناول الغداء في داره ظهر يوم الجمعة غداً.
وفي وقت الغداء، وجد صاحبنا معه على منضدة الغداء شابة ذات جمال واعتدال.
ووجد تلك الشابة تخاطب الرجل: بابا!!.
وقال صاحبنا للرجل: وجدتها!.
وقال الرجل: هي لك...!.
وتزوجا بعد أسبوع، فوجد زوجه خير الأزواج.
ولا يزال صاحبنا في رعاية الرجل الذي أصبح عمه، وقد أصبح ابنه بعد ابنه.
الصبر طيب...والعجلة من الشيطان.


ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: عدالة السماء تأليف اللواء الركن/ محمود شيت خطّاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق