الجمعة، 21 مارس 2014

وديعة الله (2)

وديعة الله (2)

ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسعداً معيناً فعاد إلى تجارته...وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره في بغداد، ويكتب الكتب يسأل ويستنجد ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتاباً-كذا في الأصل التاريخي-، ولم يرجع إليه جواب.
وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خالياً من الحب. وما كان يوسع فيه الأسى مكاناً لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، وأغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبع في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي أحبه وافتقده ولم يجد منه بديلاً، فيشعر بحرارة تلك القبل، ويسمع وسوستها، ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاكهة زوجان، فصيّرها الحب قاعاً صفصفا...ولكن تلك الخربة كانت أحب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيداً لا يؤنسه فيه إلا الذهب.
وتصرّمت السنون، وتتابعت خالية فارغة، حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزاً من الأيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبّت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيداً عن بغداد وعن داره التي ثوت فيها الحبيبة؛ فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب، واشترى قماشاَ وبضاعة حملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم أرض الوطن...ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبراً ضخماً للحبيبة ويجعل له فيه مكاناً، ولكن الدهر لم يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص، فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منهم أحداً.
ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من  عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن، ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سادر ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا الرغبة في الموت...وماذا بقي له في الحياة بعدما فقد الحب، وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يضم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم الحبيبة كي يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة. وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جراً، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها انتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيراً وسقط على الشاطئ ولم يعد يستطيع الحراك...
وجعل يفكر تفكيراً مبهماً ملتاثاً، يقطعه الجوع الذي يفري أمعاءه، والتعب الذي يهد عظامه، فيرى أنه كان في حلم وصحا منه...الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة والسعادة والمجد...لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقي. لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألماً، وتثير حسرة، وتحرق القلب. وتمنى أن لو كان خلق فقيراً منفرداً، ما عرف لذة الألفة، ولا متعة الغنى، وعاودته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينهم منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة، وأن يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبت عليه نفحة من نفحات الإيمان فاستراح إليها، وذكر أنه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وأن وراء هذه الأحداث حكمة بالغة، وقدراً حكيماً. فاطمأن إلى رحمة الله وسلم أمره إليه ووجد بهذا الاطمئنان راحة وشبعاً...
وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق فنظر فإذا زلال –السفينة الحربية- ضخم قد أقبل عليه، فلما حاذاه أشار ونادى، وسأل صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن التواضع كان شعار العرب، وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأمير مجده أن يقف لفقير سائل ويحمله معه. فأدخله الزلال وأطعمه وخلع عليه ولم يسأله عن خبره لأن النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يسأل وقبل أن يجيب.
ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق والسفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهواً وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغماً سائغاً، وحباً ومجداً، وترنحت القصور طرباً، وانتشت الرياض أنساً، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام، وتراقصت الأمواه من دجلة وتناجت بالحب، وسكرت السفن وهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر، وكانت بغداد هي الدنيا، وكانت دارة الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيه الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء...وكذلك تكون الدنيا.!


وكان دجلة يسير مزهواً طرباً. فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرَ أياماً أحلى، ولا مجداً أبقى، ولا ناساً أنقى وأتقى، من تلك الأيام وناسها.
وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى، كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة الحب والحرب، والعز والهوى، هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق، وكان يمضي إلى غايته مسرعاً كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضاً شعاعة من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالاً، وعلى العقول علماً وكمالاً، وعلى المسلمين عظماً وجلالاً، وعلى الناس كلهم حضارة وتمدناً وسلاماً وأمناً، وضوأت لهم طريق المجهول، وشقت له السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.
وأنزله الزلال على الجسر، حيث قام تلك الليلة، فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بأن هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها. ورأى الناس من حوله، فهمّ بأن يسألهم درهماً يشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها، ثمان وعشرون سنة ليست يوماً ولا يومين...دهر طويل ولد فيه ناس ومات ناس، عمر كامل...، وتهافت وخملت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطماً مكدوداً يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها...حتى بلغ الدار ونظر فإذا الخربة التي خلف فيها الحبيبة قد صارت داراً فخمة على بابها الجند والشاكرية فوقف ينظر إليها من بعيد...هذه داره التي رجع إليها لتخذ لنفسه من ثراها قبراً ولكنها أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريباً في بيته منكراً في بلده. إنه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن أثر واحد من دنياه التي كان يألفها، فإذا كل شيء قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، ولا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده...ثم استغفر الله وأناب إليه، إنه هو الفاعل المدبر، فلا الزمان والأحداث بقادرة على شيء إنه هو وحده الذي يصرف الأكوان.
وولى يعود فيضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد أن حرم آخر أمانيه، وهو أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة، ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولم يفكر في شيء فقد تواردت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلباً، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كلها مصيبة...ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها، أو يؤلمه فقدها، وتلفت ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة، وأودعه أعز شيء عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة فإذا هو يرى دكان بقال (كان يعرفه) لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطلل البالي في المدينة العامرة، فأسرع إليها..
وكان فيها شاب حدث علم منه أن أباه البقال مات من عشرين سنة، وأن الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله، ((وأن لهذا الرجل قصة عجباً، فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئاً فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو الفتى، وولد للرشيد مولود فطلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهن فدل على الجارية فقبل ثديها، وصارت ظئره وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون))(1).
ويسمع الرجل القصة فيحس أن الأرض تدور به، فيمر بآلاف الصور والألوان، والشكوك والأماني، ثم يسأله: وأين أم الولد؟ ويحس أن هذه اللحظة التي انتظر فيها الجواب، قد طالت حتى غدت دهراً، وأنه كالقائم ليسمع الحكم عليه بالبراءة أو القتل. فيقول الفتى: إنها بقية تغدوا إلى دار الخليفة أياماً، وتكون مع ابنها أياماً، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح آلامها الأيام، ولم ترقأ دمعها.
ويدعه الرجل ويركض إلى الدار، يشعر أنه يمشي في الزمان، يعود أدراجه إلى عهوده الماضيات، إلى عهد الحب الضاحك، ولياليه المترعات بالقبل. لقد نسي في هذه الخطوات كل ما لقي من شقاء، وما حمل من ألم، وامتلأ قلبه شكراً لله الذي استودعه حبيبته وما في بطنها فما ضاعت عنده الوديعة، وهذه الحبيبة التي طالما بكاها يحسبها ميتة وجاء ليدفن جسده الواني بجانب رفاتها، قائمة تنتظره، لتمنحه عطرها وسحرها ونحرها، وهذا الجنين الذي خلفه على باب الموت قد غدا شاباً ممتلئاً قوة وأيداً ومالاً ومجداً.
ووصل إلى هذا الشاب، فقال له: ما تبغي؟
فخفق قلبه، وتلاحقت أنفاسه، وهمت مقلتاه، ولم يجد ما يمهد به الحديث، فقال له: (أنا أبوك!)
ونظر الشاب شاكاً، وقال له: اتبعني.
فاتبعه، فاجتاز به صحناً بعد صحن، حتى انتهى إلى مكان الحرم فأقامه أمام ستارة، وذهب ليسأل أمه، ودل الرجل قلبه على أن الحبيبة وراء الستارة فناداها، وإذا الستارة تهتك، والمرأة تثب إلى عنق الرجل، تبكي وتضحك، وتضحك وتبكي، وتقول ما لا تدريه...
ويدير الشاب وجهه فما يحسن به أن ينظر إلى أبويه وهما يجددان عهود الهوى والشباب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: قصص من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-.
(1) مابين الهلالين من النص التاريخي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق